في حياتنا الآمنة، ومع انشغالنا بكسب لقمة عيشنا، هل نفكّر مليّاً بالمراسلين الذين يجازفون بحياتهم لمعرفة ما الذي يحصل ونقله؟ لا أظنّ ذلك. حاز موت ماري كولفن (56 عاماً)، المراسلة الحربية في صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية، التي قُتلت في قصف مدفعي على مدينة حمص، على انتباه الرأي العام، وحظي بتغطية إعلامية عالمية. لم ألتق بها يوماً، غير أنني قرأتُ بتمعّن على مدى 25 عاماً تقاريرها الممتازة من أماكن مختلفة، مثل الشيشان وكوسوفو وسريلانكا وقطاع غزة وتونس ومصر وليبيا، وأشعر أني أعرفها جيداً. لقد أولت اهتماماً خاصاً بمحنة النساء والأطفال الذين عانوا وحشية النزاع المسلح والدمار الذي خلّفه. ولدت كولفن في ولاية نيويورك، ودرست في جامعة ييل. وضعها نشاطها الصحافي في خطر كبير، فشنّت الطائرات الروسية هجوماً عليها في الشيشان، كما فقدت عينها جرّاء قنبلة ألقاها عليها جندي تابع للحكومة في سريلانكا. عُرفت بأنها أوّل صحافية تصل إلى نقطة النزاع وآخر شخص يرحل عنها، وطالما سألت نفسها: «ما هي الشجاعة؟ وما هو التظاهر بالشجاعة؟». قبل التوجّه إلى حي بابا عمرو في حمص، ناقشت مع ليندسي هيلسوم، المسؤولة عن تحرير الشؤون الدولية في القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني، المخاطر التي قد تتعرّض لها، فاعتبرت هيلسوم أنّ من الخطر محاولة ذلك. عام 2010، ألقت ماري كولفن خطاباً مميزاً في إطار حفل في ذكرى مراسلي الحروب الذين قُتلوا منذ عام 2000، وتحدّثت بشكل رائع عن أهمية هؤلاء المراسلين بالقول: «إنّ تغطية الحرب تعني الذهاب إلى أماكن تعمّ فيها الفوضى والدمار والموت، لمحاولة الإدلاء بشهادة عمّا يحصل. هذا يعني محاولة العثور على الحقيقة وسط الدعاية، حين تتصادم الجيوش والقبائل أو الإرهابيون. وهذا لا يعني المجازفة بنفسك فحسب، بل أحياناً بالأشخاص الذين يعملون معك». وتابعت: «على رغم كل شرائط الفيديو التي تعرضها وزارة الدفاع البريطانية أو البنتاغون، والحديث عن القذائف الذكية والضربات الدقيقة، فإنّ المشهد على الأرض بقي هو نفسه على مدى مئات السنين: حُفَر في الشوارع ومنازل محترقة وجثث مقطعة ونساء يبكين أولادهن وأزواجهن ورجال يبكون زوجاتهم وأمهات يبكين أطفالهن. وتكمن مهمتنا في نقل فظائع الحرب كافة بدقة ومن دون حكم مسبق». وأضافت: «يملك الشعب الحق في معرفة ما تقوم به حكومتنا وقواتنا المسلحة باسمنا، فنحن نكتب النسخة الأولى من التاريخ، ونحن قادرون على التغيير من خلال عرض فظائع الحرب، لا سيّما الاعمال الوحشية التي تصيب المدنيين. ونحن نفتخر بتاريخ مهنتنا». كانت ماري كولفن، مثل كل مراسلي الحروب، مقتنعةً بأنّ الصحافي في ساحة القتال «بات هدفاً أساسياً». ونقلت صحيفة «التايمز» في 23 شباط (فبراير)، أنّ مركز الإعلام الموقت في بابا عمرو -حيث قُتلت ماري- تم استهدافه عمداً، فقد استُهدف بعشرات القذائف، ولا بدّ أنّ الجيش السوري تمكّن من تحديد موقعها من خلال المكالمات الهاتفية التي أجرتها عبر الأقمار الصناعية. وكانت كولفن قد تحدثت الى قناة «سي أن أن»، وذكرت أنّ مدينة حمص كانت أسوأ ساحة غطّتها، «يقصف الجيش السوري مدينة تضمّ مدنيين يشعرون بالبرد ويتضوّرون جوعاً». وشبّهت ما حصل في بابا عمرو بمدينة سريبرينيتسا، التي قُتل فيها 3 آلاف بوسني مسلم بدم بارد عام 1995. كانت مقاربة ماري كولفن لعملها رائعة، ومنذ وفاتها وصفها عدد كبير من أصدقائها بأنها مضيفة رائعة في الحفلات التي كانت تنظّمها في منزلها في لندن. لقد استمتعت بحياتها بالكامل، وكان لها أصدقاء مقرّبون من جميع أنحاء العالم. لم تكن تريد أن تموت في أحد مهامها الشجاعة، لكنها كانت مستعدّة للمجازفة بحياتها من أجل البحث عن الحقيقة. * سياسي بريطاني ونائب سابق