لعل الاختبار الصعب الذي تخوضه الدولة الحديثة اليوم، يتعلق بإمكانية التوفيق بين ضرورتين: الأولى هي رسوخ سلطتها المركزية التي تمنح، لها وحدها، السيادة وتبقيها حية على الدوام. والثانية هي التحكم في هذه السلطة وحسن توجيهها من جانب مواطنيها الأحرار ولمصلحتهم، أي الجمع بين قيمتين تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين: الحضور القوي للدولة، والسيادة الكاملة للشعب. وفي حال نجاح الدولة في فك شفرة هذه المعادلة تصير دولة ديموقراطية، أما في حال الإخفاق فإنها تصير إما إلى دولة رخوة عندما تفشل في ضبط مواطنيها، وتأكيد حضورها. وإما إلى دولة مستبدة إذا ما انحازت إلى قوتها غير مبالية بحقوق المواطنين الذين يصيرون مجرد رعايا. لا يشير مفهوم الاستبداد هنا إلى شكل معين من أنظمة الحكم (رئاسي/ برلماني) أو نمط معين من أنماط بناء الدولة (ملكي/ جمهوري)، بل إلى نسق سياسي يقوم في جوهره على الإكراه والتسلط بغض النظر عن مظاهره الخارجية. فالمهم في تشكيل هيكل الاستبداد هو مدى توافر بنية سياسية استبعادية تمارس حضورها لمصلحة الأقلية، فيما تستبعد المجموع، وترفض بالمطلق إمكانية تداول السلطة. وهكذا يمكن نظاماً ديموقراطياً ظاهرياً (إجرائياً) أن يرسو على قاعدة الاستبداد، وذلك عندما تسود لديه آليات عمل تتسم بنزعات من قبيل الهيمنة والإقصاء، تحت ذرائع من قبيل تأكيد هيبة الدولة، واستعادة حضورها القوى، ذلك أن الدولة القوية حقاً هي الدولة العادلة، القادرة على وضع قوانين عادلة، والحرص على تطبيقها تطبيقاً صحيحاً وكاملاً، فيما البطش والاستخدام المفرط للقوة يقود إلى الاستبداد، وتدهور القوة الباطنية والأخلاقية للدولة، وليس إلى نمو هيبتها أو زيادة قوتها الحقيقية. في هذا السياق نبدي تخوفنا من نزعة التحكم بمفاصل النظام السياسي المصري، المفترض تأسيسه على قواعد ديموقراطية بحكم الدستور، وهي نزعة تتجلى في أمرين اثنين يثيرهما قانون الانتخابات البرلمانية، والذي تبني نظام الانتخاب الفردي بنسبة 80 في المئة مقابل 20 في المئة للقائمة المطلقة وليس النسبية. الأمر الأول يتعلق بإضعاف النظام الحزبي نتيجة لهيمنة طريقة الانتخاب الفردي، حيث اخترع نظام الانتخاب بالقائمة أصلاً لتقوية الدور السياسي للأحزاب باعتبارها الوحدات الأساسية للتنافس على السلطة، وصولاً إلى إمكانية التشارك فيها أو تبادلها سلمياً. هذا التنافس لا يمكن تصوره حقيقياً أو مجدياً إلا بين أفكار ورؤى أيديولوجية، وبين توجهات تحتضنها تنظيمات سياسية، من دونها يتوقف الحوار المجتمعي، أو يتعثر، إذ لا يُتصور قيام حوار فعال بين خمسمئة شخص مختلفي التوجه، فالأغلب أن يتبدى أعضاء البرلمان المنتخبون فردياً مثل رفاق رحلة إلى شاطئ واسع، يجلس كل منهم أو يتحدث مع الشخص الذي يروقه، فنصبح أمام مئات الدوائر المتقاطعة، وليس أمام صراعات الأفكار والرؤى المنظمة، تلك التي تدور بين كيانات محدودة معروف أولها وآخرها، على نحو يمكن معه تحقيق التوافق والانسجام بينها. تساق هنا حجج عدة لتبرير النظام الفردي: أولاها تتعلق بمدى سهولته لعموم المصريين، وسابق معرفتهم به، ولكن إذا كان الأمر هو مجرد السهولة والاعتياد فلنبقِ أيضاً على نظام الاستفتاء على الرئيس بدلاً من انتخابه، لأنه كذلك مألوف. أما أكبر هذه الحجج فيتعلق بضعف الأحزاب، على نحو لا يجعلها فاعلة وقادرة على ممارسة دورها، وهي حجة بليدة ومضللة، تذكرنا بالفزورة العبثية حول البيضة والدجاجة، وأيهما تسبق الأخرى، فمن دون اعتماد نظام القائمة الحزبية، لن تصبح الأحزاب أبداً قوية، لأنها ستظل تراوح مكانها على الهامش، لمصلحة المكون الفردي حيث تسود الانتخابات نزعات قبلية وعشائرية، ويسيطر عليها المال السياسي. إن الأحزاب ضعيفة حقاً، ولولا ذلك لما خطف «الإخوان» الحكم، غير أن السبيل الوحيد لتقويتها إنما هو تنصيبها في موضع القلب من النظام السياسي، لتكون الجسر الوحيد لحيازة السلطة فيه، والممر إلى قيادة المعارضة البناءة له، على أن يبقي التمثيل الفردي ممكناً فقط في حدود العشرة في المئة، فالعضو الذي يستحق التمثيل كفرد مستقل يفترض فيه شروط أساسية سواء على صعيد المعرفة العلمية أو المهارة السياسية، أو قوة الشخصية، وبدرجة تكاد تجعل منه حزباً بذاته، وتلك مهارات لم تتوافر في تاريخنا البرلماني سوى لقلة من طراز النائب الناصري كمال أحمد، والوفدي ممتاز نصار، واليساري إبراهيم شكري، ومن يشبهونهم أو يقاربونهم، وعدد هؤلاء لا يتجاوز الخمسين من زمن مجلسي الأمة وحتى الآن، فهل يمكن أن يتوافروا في برلمان واحد؟ وحتى إذا توافروا فإنهم يمثلون، تقريباً، نسبة العشرة في المئة، فيما يتوجب قصر المقاعد الباقية على القوائم الحزبية، حتى لا تتحول الأحزاب إلى مجرد ممر ضيق ومظلم للتمثيل البرلماني، فطالما كان الترشح الفردي ممكناً ما الذي يغري الناس إذاً بالانضمام إلى أحزاب سياسية، ويدفعهم إلى تحمل مسؤوليات تقتضيها تلك الكيانات الواقعية التي تحتاج إلى إنفاق كثير على مقارها وأنشطتها؟ وأما الأمر الثاني فيتعلق بنزعة الهيمنة والإقصاء، الكامنة في القائمة المطلقة، لأن أي حزب أو تكتل يحصل على الغالبية البسيطة (50 في المئة + 1) من أصوات الدائرة الانتخابية صغرت أم كبرت، معناه أن يفوز بكل مقاعدها، أياً كان عددها، ويخرج الحزب أو التكتل الأقل نسبياً خالي الوفاض تماماً من المقاعد ولو حصل على 45 في المئة من الأصوات على سبيل المثل. إنه نظام يجافي العقل والمنطق، فضلاً عن كونه غير إيجابي، إذ يكرس لسيطرة الأقوى، وإقصاء الآخرين. والبادي أن العقلية الإقصائية التي أنتجت فكرة القائمة المطلقة، هي نفسها التي تروج لفكرة بناء ظهير سياسي للرئيس عبر صياغة تحالف ساحق لخوض الانتخابات البرلمانية، ينتج جبهة وطنية يحكم المشير بها ومن خلالها، حيث توالت الأخبار عن اجتماعات تنسيقية لرموز تلك الجبهة، وجميعهم من رجال الدولة السابقين، كما أن بعضهم يأتي من خلفية المؤسسات الأمنية المركزية في النظام الذي سقط أمام جحافل 25 يناير، وأما القيادات الحزبية بينهم، فهي نفسها القيادات التي كانت استمرأت التعامل مع النظام السابق، ولعبت دورها التبريري في وجوده ووفق قواعده. إنها فكرة لا يمكنها العمل إلا بقواعد الإدارة من أجل سد الفراغ الذي يولده غياب السياسة، وبروح بيروقراطيين يسعون إلى ملء الساحة المهجورة بغياب السياسيين. وبدلاً من أن يكون رجلاً بحجم حمدين صباحي هو رجل المعارضة الأول، باعتباره السياسي الأكثر لمعاناً في البلاد، والمنافس الرئاسي الوحيد للرئيس، كما توقع كثيرون، وكما يفترض المنطق السياسي، فلماذا لا يكون الوجه الثاني والثالث والرابع أيضاً من رجال الدولة المعتمدين. وبدلاً من الصخب السياسي الذي قد يمارسه المعارض الشرس، فإن عقلاء الدولة ورجالها، العارفين لمصلحة الوطن، والمتفهمين لضرورات الأمن القومي جاهزون بطقوس التأييد والدعم والتمكين، من دون حوار أو اختلاف أو مشاحنات معطلة. وهكذا يمكننا القول إن مصر تفتقد ليس فقط نظاماً حزبيًّا متوازناً، تعدديًّا وتنافسيًّا، بل تفتقد في العموم نخبة سياسية جادة وواعية، قادرة على القيادة عبر الحوار والتفاوض والمساومة السياسية، على نحو يدفع إلى تمركز الحكم في الأجهزة البيروقراطية أو العسكرية. كما يمكننا القول بضمير أكثر اطمئناناً إن صياغة نظام حزبي فعال يستلزم نظاماً انتخابياً يقوم على القائمة النسبية بالأساس، إن لم يكن بالمطلق. وأن بناء نخبة سياسية مدنية حقيقية أمر يتعارض مع فكرة الجبهة الوطنية الواسعة التي تضم نقائض سياسية وفكرية، لا يمكنها أن تجتمع معاً إلا على قاعدة سلطوية، وفي المقابل يتطلب تحالفات حزبية تنهض على التوافق الأيديولوجي بين التيارات الفكرية والسياسية الأربعة الكبرى في التاريخ المصري وهي: الليبرالي، واليساري، والقومي والإسلامي، والتي يمكنها النهوض بمهام الحوار والتفاوض والتساوم السياسي معاً، ولو على نحو تدريجي، بدلاً من تلك الفسيفساء السياسية التي يصنعها نظام الانتخاب الفردي من أفراد مشرذمين مختلفي الأمزجة، لا يستطيعون سوى الالتفاف حول رجل سلطة، أو التصفيق لخطيب مفوه. * كاتب مصري