كَثُر استخدام كلمة «التوافق» في مصر، لأسباب مختلفة في مجالات متعددة، رغم أن «أصحابنا» الداعين إلى التوافق، أو المنادين به، أو الزاعمين الحرص عليه غير «متوافقين» أصلاً على كيفية تحقيق ذلك التوافق. خُذْ مثلاً تلك الملاحظة الملفتة أن كل القوى السياسية وممثليها في البرلمان بغرفتيه (مجلسي الشعب والشورى) يؤكدون أن التوافق المجتمعي ضروري لوضع الدستور الجديد، وحين جاءت ساعة الحقيقة، وبدأ النقاش حول أسس تشكيل الهيئة التأسيسية التي ستضطلع بكتابة مواد الدستور، واجتمع أعضاء البرلمان في اجتماع مشترك، فإن غالبيتهم تحدثوا بما يُبَدِّد أي توافق، إذ تمسك كل فصيل، أو جماعة، أو حزب سياسي بمواقفه المعروفة سلفاً، من دون أن يقدم بعض التنازل لتحقيق «التوافق» الذي يُطَنْطِن به، أو يسعى إلى إقناعنا بحرصه عليه. ظهر واضحاً أن الإسلاميين سواء من «الإخوان» أو السلفيين مُصرّون على أن تضم الجمعية التأسيسية أكبر عدد ممكن من نواب البرلمان الذي يحتلون فيه ما يفوق 70 في المئة من مقاعده، بينما كان جلياً أن شعور نواب الأقلية سواء من اليساريين أو الليبراليين أو المستقلين بأقليتهم جعلهم يبذلون جهوداً كبيرة للدلالة على أن الدساتير توضع «بالتوافق» بين كل فئات الشعب وطوائفه الدينية والسياسية، من دون أن يُقروا أن الغالبية البرلمانية للإسلاميين تمنح نواب «الإخوان» والسلفيين التأثير الأكبر في اختيار أعضاء الهيئة التأسيسية، فالأمر سيحسم في النهاية بالاقتراع بين الأعضاء المنتخبين في البرلمان على تشكيل الهيئة، مهما كانت الأفكار المطروحة أو الاقتراحات المقدَّمة من نواب الأقلية. الحال نفسه ينطبق على مرشحي الرئاسة المحتملين ممن أعلنوا بالفعل نيتهم المنافسة على المقعد الرئاسي، فجميعهم يؤكدون على الحريات العامة ومبادئ الديموقراطية، والحرص على قواعد المنافسة الشريفة بينهم، لكن حين يتعرض أحدهم لاعتداء، أو يطرح مبادرة، أو يطلق فكرة، فإن بعض منافسيه لا يتورَّعون عن «التلاسن» معه، أو إبداء الارتياح، لأن صاحبنا هُوجِم في مؤتمر، أو تعرض للتحرش في الشارع! ناهيك أن بعضهم بدا وكأن برنامجه الانتخابي قائم على التشكيك أو التسفيه بقدرات منافسيه. عدم الاتساق في المواقف بدا ظاهراً جداً في ردود الفعل على قرار رفع حظر السفر وإطلاق الأميركيين ال 16 المتهمين في قضية التمويل الأجنبي الخاص بالمنظمات الحقوقية. فطبيعي أن يتعرض المجلس العسكري وحكومة كمال الجنزوري لهجوم حاد وانتقادات عنيفة بعد مفاجأة «تهريب» المتهمين إلى الخارج، خصوصاً بعدما كَثُر حديث العسكر عن مقاومة التدخل الخارجي، وكلام الجنزوري عن عدم ركوع مصر، أو خضوعها لأي ضغوط خارجية، لكن المفترض أن يكون الهجوم والانتقاد صادرين من أشخاص أو جماعات سياسية (أحزاب أو حركات) أبدت تأييداً لإجراءات القبض على المتهمين أو ثمَّنت إحالة القضية الى القضاء، إلا أن المدهش أن أعلى الأصوات انتقاداً وهجوماً وركوباً للموجة صدر من هؤلاء الذين سخروا أصلاً من القضية، أو صوَّروها بأنها تمثيلية، أو محاولة من حكومة الجنزوري والمجلس العسكري للانقضاض على نشاط منظمات المجتمع المدني! فبدوا وكأنهم هم الذين أبلغوا عن المتهمين، أو نادوا بالتصدي لظاهرة «دكاكين» المنظمات الحقوقية! لا ينتظر الشعب توافقاً حول رئيس أو دستور أو قانون، فالبديهي أن يختلف المتنافسون في كل انتخابات أو سباق، لكن من دون أن تتحول الاختلافات إلى رغبات في الإقصاء أو الانقضاض على الأطراف المتنافسة. سينتخب الشعب المصري رئيسه الجديد بغض النظر عن «توافق» القوى السياسية أو اختلافها عليه، وسيُبدي المصريون رأيهم في مواد الدستور مهما كان تشكيل الهيئة التأسيسية. أما المواقف المتناقضة ل «السادة التوافقيين»، فإن الشعب الذي قام بثورة، حتى لو لم تكتمل بعد، قادر على فضحهم، فالشعب بكل تأكيد «توافق» على كشفهم... ورفضهم.