أتلقى بين حين وآخر عبر الانترنت قصائد تنسب الى نزار قباني، ذلك الشاعر الدمشقي الصديق العظيم الذي كتب ل«الحياة» شعراً ونثراً حتى وفاته. ومع أنني عرفت الشاعر على امتداد عقود، وأعتقد أنني أملك كل ما صدر له وعنه، فإنني أجد أحياناً شعراً ليس عندي ما يوثق نسبته لنزار قباني. قبل أسبوعين تلقيت قصيدة سياسية منسوبة الى شاعر العراق معروف الرصافي، وعدت الى ديوانه فلم أجدها فيه، وإنما وجدت قصيدة تشبهها بقافية مختلفة. وحاولت أن أصل الى وجه الحقيقة، واستعنت بأصحاب الخبرة، ووجدت أن القصيدة المنسوبة الى الرصافي هي للشاعر خلدون جاويد، وهي تستحق النشر كلها لولا ضيق المكان فأختار: «أنا بالحكومة والسياسة جاهل عما يدور من المكائد غافل لكنني هيهات أفْقَه كوننا شعب يتامى جُلّه وأرامل في كل يوم فتنة ودسيسة حرب يفجّرها زعيم قاتل هذا العراق سفينة مسروقة حاقت براكين بها وزلازل هو منذ تموز المشاعل ظلمة سوداء ليل دامس متواصل». البيت الأخير يشير الى انقلاب 14 تموز (يوليو) 1958، وبدء الخراب التالي المستمر، وهو ينفي أن تكون القصيدة للرصافي المتوفى سنة 1945. وأختار مقطعاً آخر من القصيدة نفسها: «لا لم تعد نجف تفاخر باسمكم لا كوفة لا كربلا لا بابل أنتم كأندلس الطوائف أُجْهِضت والموت إما عاجل أو آجل هجرت عباقرة مساقط رأسها وخلافها لم يبق إلا الجاهل». ربما كان سبب الخلط بين الرصافي وجاويد الذي قرأت له قوله بتواضع أن شعره لا يرقى الى مستوى العملاق الرصافي، أن جاويد استعار لمطلع قصيدته من مطلع قصيدة مشهورة للرصافي هو: «أنا بالحكومة والسياسة أعرف أ أُلام في تفنيدها وأعنّف». وبعده: «سأقول فيها ما أقول ولم أخف من أن يقولوا شاعر متطرف هذي حكومتنا وكل شموخها كذب وكل صنيعها متكلف». قصيدة الرصافي تنتقد التبعية للإنكليز، والشاعر كان معارضاً معروفاً أثار استياء الملك فيصل الأول فقاطعه زمناً، وأختار من قصيدته القديمة أيضاً: «علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح مُحرّف أسماء ليس لنا سوى ألفاظها أما معانيها فليست تُعرف من يقرأ الدستور يعلم أنه وِفقاً لصك الانتداب مصنّف من ينظر العلم المرفرف يلقه في غير عز بني البلاد يرفرف». أقول إنه لو عاش الرصافي الى يومنا هذا لتحسر على أيام الانتداب و «رُبّ يوم بكيت منه...». ويهدد الرصافي زعماء البلاد ويقول: «لا بد من يوم يطول عليكم فيه الحساب كما يطول الموقف فهنالكم لم يُغنِ شيئاً عنكم لُسُن تقول ولا عيون تذرف». ويتحسر الشاعر في ختام قصيدته على ما كان، ويقول: «زرْ ردهة التاريخ ان فناءها للمجد من أبناء يعرب متحف قد كان للعرب الأكارم دولة من بأسها الدول العظيمة ترجف عاش الأديب منعماً في ظلها والعالم النحرير والمتفلسف أيام كان المسلمون من الورى في ظلها لهم المحل الأشرف ثم انقضى عهد العروبة مذ غدا عنها الزمان بسعده يتحرق فبنو العروبة أصبحوا في حالة منها العروبة لا أبا لك تأنف». وأقول للرصافي إنه بكى من يومه ونحنا صرنا في غيره وبكينا عليه. وكنت كتبت يوماً عن صديق عراقي عزيز قلت إن عمله ناجح وزوجته تحبه، ومع ذلك فهو لا يجمعنا مجلس به إلا وأسمعه يغني «يا با يا با يا با تعلَّم على الصدعات قلبي». وهو زاد أخيراً «قلّي يا حلو منين الله جابك، خزّن جرح قلبي من عذابك» (أي أصيب الجرح بالتهاب). كان لي في 12/4/2010 مقال نقلت فيه عن الرصافي قوله: «أيها الانكليز لن نتناسى/ بغيكم في مساكن الفلوجة». ونعرف جميعاً اليوم أن ما فعل الانكليز نقطة في بحر جرائم الاحتلال الاميركي ضد الفلوجة وأهلها، والانقسام الحالي في العراق يهدد بتقسيم، وبتُّ أخشى أن يدمر العراق بأيدي بعض أهله فلا أقول سوى: ربنا يستر. [email protected]