«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما هكذا يُكتب الشعر ؟
نشر في الرياض يوم 23 - 12 - 2004

قال أحد الحكماء: «إذا استُعْبدتْ أمة، ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها».
وقال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي (رحمه الله): «ويطبع الرجل شعره، ويقع إليّ هذا الشعر، فأنظر فإذا هو قد فتّر وقصّر ومرّض، وأكاد أقول: وموّت، وإذا شعر كأنما تتوهم من قراءاته تقطيع ثيابك، إذ تجاذب نفسك لتفر منه فراراً، وإذا أكثر الكلام كأنه لم تنشق به الشفتان، بل خرج غمغمة مصورة، وإذا جملة الأمر في دعوى الشاعر وعمله انه يرتفع إلى أقصى السماوات على جناحي بعوضة».
ومن الشعر الذي قرأته أخيراً، والذي عناه (الرافعي) بقوله: «وإذا أكثر الكلام كأنه لم تنشق به الشفتان، بل خرج غمغمة مصورة، وإذا جملة الأمر في دعوى الشاعر وعمله أنه يرتفع إلى أقصى السماوات على جناحي بعوضة».
ما قرأته من شعر مقرزم، يحسن على قائله ستره، وهو شعر تجرأ ابننا الدكتور الأديب زهير محمد جميل كتبي، فنشره في كتابه (رجال من مكة المكرمة) في الجزء السادس.
وأعرف الابن زهيراً أديباً ألمعياً، ممن عناه الشاعر حين قال:
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
والشاعر الذي أعنيه في مقالتي هذه، والذي عناه (الرافعي) رحمه الله، هو الأديب عاتق غيث البلادي..
والأخ عاتق غيث البلادي، كتب في التاريخ، وقالوا عنه: مؤرخ مكة المكرمة، وضربوا صفحاً عن مؤرخي مكة المعاصرين ممن قرأنا لهم، كأستاذنا الكبير حسن عبدالله باسلامة، وأستاذنا الكبير محمد طاهر الكردي، وأستاذنا الكبير أحمد السباعي، (رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته).
ولا تثريب على ابننا الدكتور زهير محمد جميل كتبي، إذا ما اطلق على البلادي مؤرخ مكة المكرمة، فكتابة التاريخ مادة مشاعة، يكتبها المتمكن النحرير، والأعرج الكسيح، ولست مؤرخاً حتى أحكم على ما كتبه البلادي في كتبه التي أربت على الثلاثين كتاباً، ولا يضيرني إذا ما أطلقوا على البلادي: نسابة القرن الخامس عشر الهجري ومؤرخه، وعد أصحابه ومحبوه كتبه فتحاً جديداً في التاريخ، فهذا من شأن المحبين. ولكن شيخنا وأستاذنا حمد الجاسر «رحمه الله» شيخ المؤرخين وإمامهم، له رأي صريح في البلادي.
يقول الشيخ حمد الجاسر «رحمه الله» في مجلته (العرب): «انه أي البلادي، يتسرع الحكم تسرعاً يذكرني بقصة مستملي أبي عبيدة، الذي قيل في وصفه: يكتب خلاف ما يسمع، ويقرأ خلاف ما يكتب». انظر: مجلة العرب الجزأين 7 و8 الصادرين في شهري محرم وصفر سنة 1400ه.
وإذا لزمت الصمت عن كتابة التاريخ التي ملأ البلادي كتبه بمادتها، فإني لا استطيع أن أسكت عن شعره، وهو في نظري، وفي نظر علماء اللغة العربية والعروض، شعر شاعر قرزام، كسيح يأتي ماشياً على عكازين، والشعر صعب وطويل سلمه.
استمع إليه وهو يرفع عقيرته بشعر مكسور مهزول، فيقول في كتابه (هديل الحمام):
نُسرّ بذكراك ذكرى الربيع
فيا ليت كل الشهور ربيع
فمولدك نور يشع سناً
يباركه ذو الجلال البديع
فيكسر البلادي الشطر الأول من البيت الثاني، ويستقيم لو قال:
فمولدك النور شع سناً
يباركه ذو الجلال البديع
ونقطع البيت بشطريه: المكسور والمستقيم، ونكتبه هكذا:
ثم يقول البلادي:
وما زلت تدعو همو للتي
أمرك الإله الحكيم السميع
فيكسر الشطر الثاني، ولا يستقيم إلا إذا سكنا الفعل الماضي (أمر) من (أمرك)، فنكتبه: (أمَرْك) بسكون الراء، فنسقط بذلك سيبويه، ونفطويه، وكل من ختم اسمه (ببويه) إكراماً لشاعرنا الكبير عاتق البلادي، أو نقوم بتعديله، إذا لم يغضبه هذا التعديل، فنكتب البيت هكذا:
وما زلت تدعوهمو للتي
دعاك الإله الحكيم السميع
وقصيدة أخينا البلادي هذه من البحر المتقارب، ذي العروض الصحيحة (فعولن) مع جواز قبضها أو حذفها، والضرب المقصور (فعول) بسكون اللام.
والبحر المتقارب من دائرة المتفق التي يخرج منها بحران، أحدهما المتقارب، وهو بحر متفق عليه عند العروضيين، والثاني: اختلف فيه العروضيون، وهو البحر المتدارك، فالأخفش يقره، والخليل ينفيه، والبحر المتقارِب بكسر الراء، متقدم على (البحر المتدارَك) بفتح الراء، والمتدارِك بكسر الراء، نوع من القافية، يأتي الكلام عنه في مقالات أخر، إن شاء الله.
والبحر المتقارب يسبق المتدارك، لأن أوله وتد، فهو أولى بالتقدم مما أوله سبب، والوتد، بفتح التاء أو كسرها، في اصطلاح العروضيين، ما كان في العروض من أجزاء التفعيلات على ثلاثة أحرف، وهو على ضربين: أحدهما حرفان متحركان يتلوهما ساكن، وهو الوتد المقرون، نحو: فعو، و(علن).
والثاني: حرفان متحركان بينهما ساكن، وهو الوتد المفروق، نحو: لات من مفعولات.
وسمي البحر المتقارب بالمتقارب لتقارب أوتاده بعضها من بعض، إذ بين كل وتدين سبب خفيف، وهو: فعولن المكررة ثمانية. والسبب الخفيف هو: حرف متحرك، والثاني ساكن، مثل: لن، من (فعولن). والسبب الثقيل هو: مقطع عروضي يتكون من حرفين متحركين مثل: فع..
وانظر: كتابي (ما هكذا يكتب الشعر) الجزء الأول، صفحة (68 - 70) ففيها بيان وتبيين عن بحر المتقارب..
ثم نأتي إلى مقطعة البلادي (قرون الظباء) المكونة من خمسة أبيات، التي لحق الكسر أبياتها الخمسة، ولم يسلم بيت واحد من الكسر.. والمقطعة لو سمعها الأصمعي لبكى واستبكى معه كل من سمعها، كما بكى حين عرض عليه أحد شعراء بغداد شعراً مثل شعر أخينا البلادي، فلما سئل ما يبكيك أيها العالم الجليل.
قال: يبكيني أن ليس لغريب قدر وحرمة، لو كنت ببلدي بالبصرة ما جسر هذا ان يعرض عليّ هذا الشعر وأسكت عنه، ولا أضربه ضرباً مبرحاً حتى يتوب»..
رحمك الله أيها العالم الكبير عبدالملك بن قُريْب، فلو كنت حياً بين ظهرانينا، وسمعت مثل هذا الشعر الرديء الذي امتلأت به كتبنا وجرائدنا، لبكيت بكاء الأم الرءوم على موت ولدها، واستمررت في البكاء حتى يجتمع علماء البلد ومثقفوها، ويضربوا هؤلاء الشعراء حتى يغمى عليهم، ثم يذهبوا بهم إلى غرفة (الإنعاش)...
استمع أيها القارىء الكريم، وابك على حالنا، وحال ثقافتنا، وسامح الله هذه الجامعات العلمية التي جرأت أنصاف الشعراء وأرباعهم، حينما رأوا بعض خريجيها يتعثرون في كتابتهم شعراً ونثراً، فمدوا أرجلهم في وجوهنا، وقالوا مثل ما قال أبو حنيفة النعمان (رحمه الله): «الآن يمد أبو حنيفة رجله».
استمع أيها القارىء الكريم، وصفق بيديك حتى تحمرا، إذا كنت جاهلاً، يقول عاتق البلادي، وهو يخاطب (الوعل) أو (تيس الجبل):
عرفت لماذا حملت القرون
سلاح وهبه الإله لكا
قرون تهز قلوب السبا
ع فيارب ما اعظم أفضا لكا
أظبي يذل ذوات النيو
ب فيا ناب ول أولى لكا
وليت لنا مثل هذه القرو
ن نذل عدونا إذلالكا
ولكن جممنا فهبنا الحرو
ب فهنا على الأسبع أمثالكا
وهي مقطعة مكونة من خمسة أبيات، لم يسلم منها بيت واحد عروضياً على رداءتها وركاكتها، كما لم تسلم بعض أبياتها من خطأ الإعراب، ومخالفة وجه الصواب في النحو، يقول عاتق البلادي (غفر الله له): (عرفت لماذا حملت القرون سلاح). وكان عليه أن يقول: (لماذا حملت القرون سلاحا) حين يخاطب (الوعل). فينصب سلاحا على الحال، كما هو معروف عند تلامذة المرحلة الابتدائية، وعليه أن يقول أيضاً: (قرونا تهز قلوب السباع) فينصب قروناً في مقطعته بدلاً من القرون في قوله: (حملت القرون) وهذا ما علمناه تلامذتنا في المرحلة الابتدائية، منذ سنين مضت، حينما كان التعليم بخير. قال الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم} فالصراط الثانية منصوبة، لوقوعها بدلاً من كلمة (الصراط الأولى).
واستطرد في الحديث لأشير إلى قصة وقعت لأحد علماء المسلمين من بيت الرافعي، سكان طرابلس لبنان ومصر، وبيت الرافعي أسرة تنتسب إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بإجماع علماء الأنساب.
يقول المؤرخون: ذهب أحد علماء بيت الرافعي (وقد نسيت اسمه) إلى (استنبول) عاصمة الخلافة العثمانية، ليتسلم قرار تعيينه قاضيا لبلد من بلدان المسلمين، في أواخر العهد العثماني، فرأى في أحد حمامات (استنبول) العامة منكراً، فأمر بسجن وجلد مرتكب المنكر، وكان شاعراً، فلما نفذ الحكم ومضى، وانتهت مدة الحكم، قال المذنب يهجو الشيخ الرافعي (رحمه الله):
تاء أنعمت أتت مفتوحة
لا لها من خافض أو رافع
كل من جاء بها مرفوعة
لعنة تلحق أم الرافع
والتورية واضحة وصريحة في الروي من البيت الثاني..
وأبيات البلادي الخمسة المكسورة، وهي من البحر المتقارب أيضاً، أدعها كما هي تتوح على ناظمها، ولا أكلف قلمي بتعديلها، لأنها أبيات مهزولة محصرمة ركيكة، لا تستحق القراءة، ولا تستدعي الاهتمام، وهي من شعر الشادين، الذين يقرزمون الشعر، ويأتون به كسيحاً، وهم يظنون أنهم يحسنون صنيعاً.
وكان شعر عاتق البلادي الذي ضمه كتابه (هديل الحمام)، يتبرأ الحمام منه، لأن هديل الحمام، ذلك الصوت الشجي، قد استدعى اهتمام شاعر فلسطين الكبير إبراهيم عبدالفتاح طوقان، فقال قصيدته الرائعة التي استهلها بقوله:
بيض الحمائم حسبهنه
أني أردد شد وهنه
رمز السلامة والوداعة
منذ بدء الخلق هنه
في كل روض فوق دانية
القطوف لهُنّ أنّه
وهي قصيدة جميلة بديعة، قرأتها في ديوانه المطبوع في مطابع دار الكشاف للنشر والتوزيع ببيروت في سنة 1375ه، وقد أهدى إليّ الديوان في سنة طبعه أستاذي وصديقي الشيخ أحمد علي أسد الله الكاظمي الحسيني (رحمه الله) وقد سطر شيخي أحمد علي إهداءه بخط يده الجميل في صدر الكتاب..
ثم انتقل في قراءتي إلى كتاب (رجل من مكة)، للدكتور زهير محمد جميل كتبي، فأجد قصيدة للأخ عاتق البلادي، بعنوان (لله عين شاقها نجد)، فتذكرني بقصيدة (اليتيمة) لدوقلة المنبجي، وقد عزيت هذه القصيدة إلى سبعة عشر شاعراً، كل شاعر منهم يدعيها..
وسبب تسميتها بذلك كما تقول كتب (القصص والحكايات): إن ملكة من ملكات اليمن، آلت على نفسها ألا تتزوج إلا بمن يقهرها بالفصاحة والبلاغة، ويذلها في هذا الميدان، فلم يتفق ذلك لأحد مدة طويلة، فسمع بها بعض الشجعان البلغاء، وجاء يطلب محلها، فمر ببعض أحياء العرب، فأضافه كبير الحي، وسأله عن حاله، فأخبره بما هو فيه، وأطلعه على القصيدة المذكورة (اليتيمة)، وكان ممن خطب المرأة سابقاً، فحمله الطمع على أن يرضخ رأس الرجل بحجر إلى ان مات، وأخذ القصيدة، ونسبها إلى نفسه، وذهب إلى المرأة ليخطبها، وذكر لها انه كفء لها، فقالت له: من أي الديار أنت؟، قال: من العراق، فلما اطلعت على القصيدة، رأت فيها بيتاً يدل على ان قائلها من تهامة، فصرخت بقومها، وقالت: الزموا هذا فإنه قاتل بعلي، فأخذوه وعذبوه، فأقر بما فعل، فرجعوا إليها به، فأمرت بقتله، فقتلوه. فآلت على نفسها ألا تتزوج بأحد بعده، كرامة لهذه القصيدة وقائلها.
والقصة كما ترى تحتاج إلى تدقيق وتمحيص، لأنها قصة مزخرفة مموهة، لا تستند إلى صحة وبرهان..
وتبدأ قصيدة (اليتيمة) بقول الشاعر:
هل بالطلول لسائل ردّ
أم هل لها بتكلم عهدُ
درس الجديد جديد معهدها
فكأنما هي ريطة جَرْدُ
والقصيدة تتكون من ثلاثة وستين بيتاً، والبيت التي أشارت إليه المرأة هو:
إن تتهمي فتهامة بلدي
أو تنجدي يكن الهوى نجد
وهي قصيدة من روائع الشعر.
وقصة هذه القصيدة مع إحدى ملكات اليمن، القصة التي أشرت إليها آنفاً، لم تذكر لنا مظنة من المظان التي رجعت إليها لأستوثق منها صحة نسبة هذه القصيدة وأجد فيها خبراً وثيقاً عنها، مما جعل بعض المؤرخين ينسبونها إلى الشاعر علي بن جبلة (العكوك) - بتشديد الواو - المتوفى سنة 213ه، وكان هذا الشاعر من أحسن الناس إنشاداً، وكان الأصمعي يحسده، وهو الذي لقبه (بالعكوك)، أي: الغليظ السمين، وكان أعمى أسود أبرص، قتله الخليفة المأمون، لما سمعه يسرف في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، الأمير القائد المعروف، حتى قارب الكفر في مدحه.
وللعكوك ديوان شعر طبع في دار المعارف بمصر، ضمن سلسلة ذخائر العرب سنة 1985م.. كان نسب بعض المؤرخين قصيدة (اليتيمة) للشاعر أبي الشيص: محمد بن علي بن رزين، ابن عم دعبل بن علي الخزاعي، الذي عاش في زمن الخليفة العباسي (هارون الرشيد)، وتوفي سنة 196ه.
ولأبي الشيص شعر رائع، استمعوا إلى بعض شعره أيها القراء الكرام ليواسيكم وينسيكم ما سمعتموه وتسمعونه من شعر رديء ركيك، وفي المثل العربي: (إن أخاك من واساك).
استمعوا لأبي الشيص، وهو يقول:
وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي
متأخّر عنه ولا متقدَّم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً
ما من يهون عليك ممن يُكرم
أشبهت أعدائي فصرتُ أحبّهم
إذ كان حظي منكِ حظي منهمو
وقصيدة (اليتيمة) قد عارضها الشاعر محمد بن غالب الرصافي (نسبة إلى رصافة بلنسية) ببلاد الأندلس، يقول الرصافي البلنسي من قصيدته الرائعة:
يا سعد قد طاب الحديث فزدْ
منه أخا نجواك يا سعد
فلقد تجدّد لي الغرام وإن
بليَ الهوى وتقادم العهدُ
ذكْرٌ يمر على الفؤاد كما
يُوحي إليك بسِقْطِهِ الزنْدُ
وهي قصيدة بديعة أربت أبياتها على الخمسين بيتاً، ولم أقرأ لأحد يعارض هذه القصيدة غير الشاعر الرصافي البلنسي..
وقرأت قصيدة اليتيمة منذ خمسين سنة، فراقتني، وعلقت أبياتها في ذهني، ومرت على سنون ولم تمحها من ذاكرتي، وعلقت مني كل معّلق، وأعيش حتى أرى عاتق غيث البلادي يقرر معارضتها، والقصيدة من البحر الكامل، عروضه (حذاء) وضربه (أحذ مضمر) والبحر الكامل، يقول عنه أبو العلاء المعري: «من عامة الشعر، لأنه والبحر الوافر، لايبلغ أملاك الشعر»، وانظر: كتاب (الصاهل والشاحج) لأبي العلاء المعري، صفحة 587 طبعة دار المعارف بمصر..
يبدأ عاتق غيث البلادي قصيدته ببيت مكسور، وأول القصيدة كسر، فسامحه الله، يقول حفظه الله:
ومنشديْن يشوقهما نجد
لله عين شاقها نجد
فيكسر الشطر الأول من البيت، وهو بيت مهزول محصرم، يحتوي شعراً كسيحاً، ويستقيم شطر بيته الأول عروضياً لوقال حفظه الله:
كم منشد قد شاقه نجد
لله عين شاقها نجد
ونقطع البيت هكذا:
وقد أساء البلادي بقصيدته الركيكة إلى القصيدة (اليتيمة)، كما أساء إلى لغة الضاد من حيث يتوهم الإحسان إليها.
وأسرد إليك أيها القارئ الكريم أبياتاً ركيكة من قصيدة (البلادي)، قد نهشها الكسر، وأودى بها إلى هوة لاقرار لها، يقول البلادي عفا الله عنه:
وأرزمت الخلفات مجلبة
وأقبلت الحيران تشتد
وهو بيت مكسور، ولغته عامية، وهذا من عجائب شعر بعض الشعراء في هذا العصر الذي تردت فيه لغتنا الجميلة الشاعرة على أيدي بعضهم، ولم يتوقفوا عن خزعبلاتهم الشعرية، لأنهم لم يجدوا من يحاسبهم الحساب العسير.. وأصبح شعرهم من أسباب التخلف الذي أحاط بنا، ولم يراعوا قواعد الشعر، من وزن ونحو ولغة، وهي قواعد تضفي الجمال على شعرنا، وترتفع به إلى السماء على جناحي صقر.
والشيء يتبع الشيء، ففي يوم الثلاثاء 17/10/1425ه وفي تمام الساعة الواحدة والنصف ظهراً، أصغيت إلى إذاعة MBC مصادفة فسمعت إحدى المذيعات تقول:
ياحسين فين راح صوتي ياحسين
ثم أردفت قائلة: (ياسلام، أنا الآن سأقول قصيدة).. وبهذا الكلام الغث، تعلن المذيعة الفاضلة للمستمعين، أن نظم الشعر في هذه الأيام كنظم الخرز الرديء في السلك الصدئ... فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويقول البلادي في قصيدته:
ففي الحجاز كل خاشعة
وخاشع تسبيحه الحمد
فيكسر الشطر الأول من البيت، ثم يقول:
تُكسر بمرأى الناس أرجلهم
رضخاً ويكسر منهمو الزند
فيكسر الشطر الأول من البيت، ولايستقيم إلا إذا سكّنا الراء من الفعل المضارع (تكسر) ونسقط بذلك قواعد النحو إكراماً لشاعرنا البلادي ويستقيم البيت هكذا:
كسرت بمرأى الناس أرجلهم
رضخاً ويكسر منهمو الزند
ثم يقول البلادي:
وباكية تسيل أدمعها
وتستغيث فيُصفع الخد
فيكسر الشطر الأول من بيته المتصدع، ويستقيم لوقال:
ودموع باكية تسيل دماً
وتستغيث فيصفع الخد
ثم يقول البلادي (عفا الله عنه):
يندبن معتصماً وأين هو
أين صلاح الدين والجند
فيكسر الشطر الأول من بيته، ولايستقيم إلاً إذا قال: (وأين هوا) ومد الواو وأشبعها، وهذا لم يرد في لغتنا العربية الشاعرة.
ثم يقول البلادي:
انظر إلى الأفق فسوف ترى
جيش محمد جاء يحتشد
فيكسر البيت بشطريه، ولايستقيم إلا إذا قال:
انظر إلى الآفاق سوف ترى جيشاً لأحمد جاء يحتشد
فيستقيم البيت بهذا التعديل، ولكننا نصطدم بضرب البيت الذي جاء (أحذ) والقصيدة جل أضرب أبياتها (أحذ مضمر)، سوى ثلاثة أبيات منها هذا البيت، ورويّ الأبيات الثلاثة هذه هو: (تلد)و (يرتعد) و (يحتشد).
وأضرب قصيدة البلادي التي بلغت ثلاثة وعشرين بيتاً من الضرب (الأحذ المضمر) سوى هذه الأبيات الثلاثة.
وهذا العمل يعد للبلادي فتحاً جديداً في علم العروض، لم يصل إلى (دوقلة المنبجي) صاحب قصيدة اليتيمة، أو إلى غيره من الشعراء الذين نسبت إليهم القصيدة، ولو علم هؤلاء الشعراء بجواز الجمع بين الضرب (الأحذ)، والضرب (الأحذ المضمر)، في قصيدة واحدة من البحر الكامل لما تكلفوا الشطط في كتابة قصائدهم..
وللبحر الكامل عروض (حذاء) بتشديد الذال، لها ضربان: أحذ مثلها، وأحذ مضمر، ولايجوز للشاعر أن يأتي بقصيدة تجمع بين الضربين.
والشيء بالشيء ويذكر، فإن زحافات البحر الكامل هي: الإضمار: إسكان الثاني المتحرك، فإذا سكنت التاء من (متَفاعلن) بقي (متْفاعلن) وينتقل إلى (مستفعلن). ويدخل هذا البحر (الخزل)، وهو اجتماع الإضمار والطي، فتسكن التاء من (متفاعلن) للطي، فتصير (متفعلن) وتنقل إلى (مفتعلن). ويدخله (الوقص)، وهو حذف الثاني المتحرك، فتحذف التاء من (متفاعلن فتبقى (مفاعلن)، ثم تفتح الميم من (مَفاعلن) طلباً للخفة.
وإذا دخل (الإضمار) التفعيلات الستة من بيت البحر الكامل، كبيت عنترة العبسي:
إني امرؤ من خير عبس منصباً
نصفي وأحمي سائري بالمنصل
ونقطعه هكذا:
اشتبه البحر الكامل، ببحر الرجز، ولايرفع عنا هذا الاشتباه إلاقول عنترة في هذه القصيدة:
طال الثواء على رسوم المنزل
بين اللُّكيك وبين ذات الحرمل
ونقطع البيت هكذا:
فيرد في هذا البيت، وغيره من أبيات قصيدة عنترة عند تقطيعها (متفاعلن) بتحريك التاء، فنعلم أن هذا البحر من الكامل، وليس من البحر الرجز، وقصيدة البلادي الركيكة (لله عين شاقها نجد)، قد دخل الوقص بعض أبياتها السليمة، واجتمع الوقص والخزل في أحد أبياتها، وهو أمر غير معروف في علم العروض، ولو كانت قصيدة البلادي سليمة، لغة ونحواً وعروضاً، لعددنا البلادي مجدداً في علمي العروض والقوافي، حيث جمع بين الوقص والخزل في بيت واحد..
يقول البلادي (غفر الله له):
الله أكبر إن أمتنا
مجيدة فارقها لمجد
ونقطع الشطر الثاني من البيت هكذا:
وأقرأ قصيدة له بعنوان (الرئيس المختار) فأقرأ عجباً، وأتلو على قرائي هذا العجب، يقول البلادي في قصيدته هذه:
قالوا ترافق خلان فاتفقوا
ليرأس القوم منهم كامل العقل
فقال شيخ البغال إننا بشر
فعارف الدرب يرأسنا بلاجدل
وكان في القوم جحش لاينازعهم
طوع مؤدب يحمل كامل الثقل
وإني أسألكم أيها القراء، هل هذا شعر؟ وكيف لانخجل من إخراجه وتدوينه في كتاب يتلى على الناس؟ لقد قتلت الشعر أيها البلادي، ووأدته في حفرة لاقرار لها، وحاصرت نفسك بهذا الشعر الرديء. أبياتك هذه أيها البلادي ركيكة، ومعانيها هشة متردية، لاتخرج عن كتابة من يريد أن يلحق الأذى بلغة الضاد الشاعرة، وأوضح له، وأضع أبياته على المحك، فأقول: إن أبياتك (وأسميها أبياتاً تجاوزاً) من البحر البسيط البحر الثالث من دائرة المختلف، وأجزاؤه ثمانية أجزاء من (مستفعلن) (فاعلن) المكررة أربعاً، وله ثلاث أعاريض، وستة أضرب. والبيت الأول منها ضربه (مقطوع) (فعلن) بسكون العين. وأما عَروضه فلا تظهر لي في الشطر من البيت المكسور (قالوا ترافق خلان فاتفقوا)، ولكني أستطيع أن أقول: إن عروض هذه الأبيات الثلاثة (مخبونة) (فعلن) بتحريك العين ، لسلامة الشطر الأول من البيت الثاني، ولسلامة الشطر الأول من البيت الثالث، غير أنني أصطدم بكسر الشطر الثاني من البيت الثالث، وأصطدم بتغيير الأبيات من الضرب المقطوع (فعلن) بسكون العين، إلى الضرب المخبون (فعلن) بتحريك العين. وهذا عمل رديء، يذهب برونق الشعر وايقاعه وجماله، إذا كان في هذه الأبيات (أبيات البلادي) رونق وجمال.
وأين الجمال والإيقاع في شطر البيت: (طوع مؤدب يحمل كامل الثقل).
وأسميه شطراً من البيت تجاوزاً، والصواب أن أقول: إنها جملة من الكلام، لاتخضع لقواعد الشعر، وقد أصابها الكسر في عمودها الفقري، كما أصاب الكسر جملة (قالوا ترافق خلان فاتفقوا)، وأصابها أيضاً الخطأ في الإعراب، فالصواب أن يقول: قالوا ترافق خلان فاتفقا) وليس الشاهد في الآية الكريمة من سورة الحج: «هذان خصمان اختصموا في ربهم» يصلح للتمحل لتسويغ هذا الخطأ.. وانظر: إعراب هذه الآية الكريمة في الكتب المخصصة لإعراب القرآن الكريم.
وللفائدة: فالخصم، المخاصم (يستوي فيه المذكر والمفرد وفروعهما) وفي التنزيل «وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب» فهو جمع،. والخصم في علم الحساب: الحُطيطة، والخصم مولدة، وهي مايحط من جملة الحساب، فينقص منه وجمعه: حطائط.
واستعمل عبدالله بن المقفع في كتابه (كليلة ودمنة) جملة: (وطالب الباطل مخصوم) أي مغلوب، وهذا لم يرد في معاجم اللغة.. وانظر: (من معجم عبدالله بن المقفع للدكتور إبراهيم السامرائي - رحمه الله - ص 78 طبعة بيروت سنة 1404ه
ونحمد الله أن هذه القصيدة- إن كانت قصيدة - بأبياتها التي أربت على العشرة، المنشورة في كتاب الكتبي (رجال من مكة) لم تنشر إلا لنترحم على الشاعر العربي الكبير أمين ناصر الدين، الشاعر اللبناني المعاصر لأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم الذي قال:
يامن يرى اللغة الفصحى وقد نكبت
بكل دهياء ردت نورها ظلما
هوت من الذروة العليا وبث لها
شر الغوائل قوم ضيعوا الهمما
تخالهم عرباً حتى إذا نطقوا
في الناس أوكتبوا لم يفضلوا العجما
فتلك أشعارهم ساموا البيان بها
مذلة واهانوا الطرس والقلما
ثم أنتقل مرة أخرى إلى كتاب (هديل الحمام) للبلادي، فأقرأ له:
(المستغني عنه) و (المساك) بتشديد السين، و(المتملقون)، و (مفارقات)، وغير ذلك من الكلام الذي سماه البلادي شعراً في كتابه، وحق له ذلك، لأن الكتاب كتابه، والدار داره، ولا يعفيه قوله في تصدير شعره للقراء، حيث قال: «ولأنه يزعم أنه شاعر، فاكتفيت بإيراد شيء من شعره» وهو يريد بهذا القول أن يتبرأ من ركاكة شعره وقرزمته، ونسي البلادي- عفا الله عنه- أن أكثر ماتستعمل كلمة (زعم) فيما كان باطلاً أو فيه ارتياب.
ورحم الله شعراءنا الكبار المبدعين المفلقين: العواد والسرحان والفقي وشحاتة والزمخشري وقنديل، وغيرهم من الشعراء الكبار، وحفظ الله لنا نظراءهم: إبراهيم العواجي وغازي القصيبي ومحمد الفهد العيسى والدبل والبهكلي والصحيح وسعد الحميدين وأحمد الصالح (مسافر) وعبدالله باشراحيل والثبيتيين: عياد عيد ومحمد عواض، وسيعفو عني أحبائي الشعراء الكبار ممن تجاوزت عن ذكر أسمائهم، وقد بلغت من العمر ماينسيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.