اليوم ألجأ الى الشعر في بعض حديث السياسة لأضمن ألا «يطفش» القارئ، فهو يبقى مع الشعر حتى لو ابتعد عن السياسة. القارئ يعرف ما ألحق الأميركيون بالفلوجة من دمار، فبعد قتل أربعة من حراس شركة بلاكووتر في 31/3/2004 هاجمها الأميركيون في نيسان (أبريل) وتركوا 600 قتيل وألف جريح ودماراً هائلاً وشرّدوا 60 ألف مواطن. وهم عادوا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 وقتلوا أكثر من 1400 مواطن مع جرح أربعة آلاف آخرين وشردوا بقية السكان، واستعملوا الفوسفور الأبيض. لم أجد شعراً عن مصيبة الفلوجة بالأميركيين، إلا أنني وجدت شعراً قديماً لمعروف الرصافي عن الانكليز والفلوجة بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، فقد احتلها الجيش البريطاني واعتدت القوات المتطوعة على سكانها، وقال الرصافي: أيها الانكليز لن نتناسى/ بغيكم في مساكن الفلوجة ذاك بغي لن يشفي الله إلا/بالمواضي جريحة وفجيجة هو كرب تأبى الحمية أنا/ بسوى السيف نبتغي تفريجة هو خطب أبكى العراق والشام وركن البنية المحجوجة غير أننا نسينا أو تناسينا، حتى جاء الأميركيون ليفعلوا أضعاف ما كانت الفلوجة على أيدي الانكليز. بين هذا وذاك قال خليل مطران: كل قوم خالقو نيرونهم/ قيصر قيل له أم قيل كسرى أو قيل صدام حسين، فلولا سياسته الحمقاء الخرقاء لما احتل العراق. قبل قرن أو نحوه ضرب الأسطول الايطالي بيروت سنة 1912 ودمر مباني وأوقع قتلى وجرحى، وقال أحمد شوقي: يا رب أمرك في الممالك نافذ/ والحكم حكمك في الدم المسفوك سبعون ليثاً أحرقوا أو أغرقوا/ يا ليتهم قُتلوا على «طبروك» بيروت يا راح النزيل وأنسه/ يمضي الزمان عليّ لا أسلوك الحسن لفظ في المدائن كلها/ ووجدته لفظاً ومعنىً فيك طبعاً لم نفعل شيئاً ازاء الطليان، فكان أن عادوا مع الحرب العالمية الثانية وأغلقوا البحر الأبيض المتوسط مع الألمان، وارتفعت الأسعار في لبنان ارتفاعاً رهيباً، ما جعل الرئيس بشارة الخوري بعد ذلك يقول في تفسير كل مشكلة «الحق على الطليان». في المناسبة، بين الحربين هاجم الطليان الفاشست الحبشة، وفرّ الامبراطور، ولكن بعد أن قتل أسده الخاص حتى لا يقع في يد العدو، وقيلت في الحادث قصائد، وانتهى هيلا سيلاسي في مبنى YMCA في القدس وكان جدي يروي لي ذكرياته معه. أعود الى معروف الرصافي، فهو قال عن العراق شعراً معبراً أراه ينطبق على بلدان عربية عدة، وما على القارئ إلا أن يضع اسم بلده مكان العراق: من أين يُرجى للعراق تقدم/ وسبيل ممتلكيه غير سبيله لا خير في وطن يكون السيف/ عند جبانه والمال عند بخيله والرأي عند طريده والعلم/ عند غريبه والحكم عند دخيله وقد استبد قليله بكثيره/ ظلماً وذلّ كثيره لقليله ويقال إن الملك فيصل تأثر كثيراً بالتعريض به بعد أن كان وصل الى العراق من سورية حيث قال له الشاعر أسعد رستم: بسيفك أم بسيف الانكليز/ دخلت بلاد الشام إيزي ثم إيزي وكلمة «إيزي» انكليزية والمقصود «بسهولة». لن أختار شعراً عن فلسطين اليوم، فقد نقلت عن محمود درويش في الأسابيع الأخيرة شيئاً من «سجّل أنا عربي» و «أيها المارّون بين الكلمات العابرة»، لذا أختار ندباً باللهجة العامية لأنه لم يبق لنا سوى البكاء. وكانت هناك التي ندبت زوجها الشهيد قائلة: عين طرفها الهوى/ وبكيت ما لي عين/ قابلت حبيبي وعلينا ألف عين وعين. ومثلها التي قالت: يا شجرة في الدار حاميك أسد/ وتكسّرت الغصان (الأغصان) من كتر الحسد. أنا زرعت الزرع جا غيري حصد/ يا خسارتو صار الوطن لغيرنا. الحال لم يتغير منذ أكثر من ألف سنة عندما قال أبو العتاهية: من مبلغ عني الإمام/ نصائحاً متوالية إني أرى الأسعار أسعار الرعية غالية وأرى المكاسب نزرة/ وأرى الضرورة فاشية وأرى غموم الدهر رائحة تمرّ وغادية وأرى الأرامل واليتامى في البيوت الخالية يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عالية دوام الحال من المحال، إلا إذا كان حال الفقر والأرامل واليتامى في بلادنا. ربما عدت يوماً الى شعراء عصر النهضة، فهم ماتوا قبل أن يروا ضياع الأمل بقيام أمة مجيدة يجمع الدين بين أبنائها ولا يفرق، فقال خليل مردم: الحمد لله أني في حمى وطن/ تحمي كنائسه فيه مساجده وقال قيصر معلوف: فليعلم الناس من ترك ومن عجم/ بأننا قبل عيسى والنبي عرب وقال شبلي الملاط: فإن مشت مصر مشى في إثرها/ غسّان بالقرآن والانجيل وفاخروا جميعاً بلغة العرب، فقال مصطفى صادق الرافعي: إذا اللغات ازدهت يوماً فقد ضمنت/ للعرب آي فخار بينها الكتب وقال أنيس المقدسي: لغة العرب اذكرينا/ واذكري ما فات كيف ننساك وفينا/ نسمة الحياة وقال حافظ ابراهيم: لمصر أم لربوع الشام تنتسب/ هنا العلى وهناك المجد والحسبُ ركنان للشرق لا زالت ربوعهما/ قلب الهلال عليهما خافق يجبُ خدران للضاد لم تهتك ستورهما/ ولا تحوّل عن مغناهما الأدبُ ماذا بقي من كل هذا اليوم؟ لا شيء، وبما أنني سجلت شعراً عن الآخرين، فإنني طلباً للموضوعية أختتم بشعر لحافظ ابراهيم عن مهنتي: جرائد ما خط حرف بها/ لغير تفريق وتضليل يحلو بها الكذب لأربابها/ كأنها أول ابريل. [email protected]