أكاد أجزم - ولعلكم تتفقون معي - بأن عالمنا العربي والإسلامي لم يشهد حال فرقة وتشتت مثلما يشهده اليوم، ليس على مستوى السياسات والتجاذبات الشرقية والغربية، إذ لم يعد ثمة ما يُعرف اليوم بشرق وغرب متصارع، بل على مستوى الأحزاب والجماعات وحتى الأفراد في ما بينهم «شيعي، سني، إخواني، سلفي، وهابي، صوفي، تبليغي، علماني، ليبرالي... إلخ»، هذه لم تعد ظاهرة لمجرد التأمل فقط، بل حقيقة وواقع يضربان أطنابهما في عمق الوعي الجمعي العربي والإسلامي، كما أنها ليست خالية من الإرادة والتصميم، كما أنها لا تفتقر إلى الحجج والبراهين المخولة لها باتخاذ إجراءات، ربما ستكون مستقبلاً الأشد فتكاً وتدميراً! فالشعوب التي خرجت بقوة وعزم لا يمكن لها التراجع والتنصل من أبواب هي في متناول الأقدام قبل الأيدي، بعدما أريقت الدماء، جاءت تحمل أجندات متنوعة، وتستبطن تجاذبات وأهواء مختلفة، ستفاجئنا بها ذات يوم بخطوط تفصيلية دقيقة، وإن بدت معالم خطوطها العريضة ماثلة للعيان، ونشهدها واقعاً حياً عبر القنوات الفضائية، التي لم يعد بوسعها تخبئة أو مواربة الأشياء، إذ لا مكان اليوم للخوف حتى من أعتى الأنظمة فتكاً وتجبراً، مما حرض بعض الجماعات المساكنة على مضض لابتدار اللحظات المواتية ورفع عقيرتها بإيماناتها المخبأة، مستخدمة كل وسائل الاتصال الحديث. اليوم لعبة الحديد والنار - بالتجربة - لم تعد تجدي نفعاً، فثمة أرواح باتت تتوق للموت في سبيل مبادئها، وعقول هشة مريضة تتلهف للإثارة والشهرة حتى على حساب أمنها واستقرارها، وقلوب مفطورة ومتوجسة مما يحدث على مرمى قريب من السمع والعين، ما أثار ردود فعل عارمة أوجدت حال من التعبئة المضادة، فباتت ترى الحبال ثعابين، والزبادي حساءً ساخناً يلسع اللسان، كما تصف الأمثال، لتبادر إلى أقرب الأشياء المؤجلة لديها كمشروع للتصفية، مستنفذة قواها الداخلية المتضمنة لأجندتها الفكرية، والخارجية من خلال طابور عريض وطويل من الأتباع والمريدين المنضوين تحت لوائها، ضاربة بطبيعة المرحلة الوعرة، التي يمر بها العالم العربي، عرض الحائط، إذ طفقت هذه الجماعات المؤلبة على بعضها البعض بفرز سريع وتحديد معالم الهوية عبر حركة ظاهرة، مبتدئة بالقضايا الصغيرة المسكوت عنها آنفاً، ثبتتها بمشابك صغيرة كمؤشرات على الوجود ولفت الانتباه، ما لم يكن يعمل من قبل، تبنتها بعض الخطب والمواعظ ذات البعد «التسييسي»، فأصبح الأتباع يتنادون بها باستثارة واستعداء ظاهرين، بغية إحداث شغب وبلبلة، من شواهدها ما حدث عندنا خلال فترة وجيزة، أي عقب انفجار التمرد الشعبي في تونس، وتلاحقت على إثرها بقية أحجار «الدومينو»، هل سننتظر حتى تمتلئ قلوب العامة والدهماء بمواعظ مجانية لا تحمل سوى الضغينة والمقت. ما حدث في «الجنادرية» أخيراً مثال مصغر لما يمكن أن يحدثه التجييش الديني، مع أن الإسلام بغاياته الكلية السامية يحرم الفتنة ويجرم الداعين إليها، ويدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة في النصح والدعوة، ويرفض الشدة والغلظة في تصحيح مسارات الناس مهما بلغت مخالفاتهم. لا أريد أن أكرر ما تعرفونه جميعاً، ويصبه مشايحنا في آذاننا ليل نهار، إلا أنه حين التطبيق ينأى بعضهم عن هذه القيم السامية في الدعوة، ويتحول إلى محارب جسور، هدفه أن يصيب الخصم في مقتل ويجهز عليه، حتى ينال بركات المطبلين له، ثم ماذا بعد؟ في زحمة الأحداث التي أرقت وجدان أمتنا، خرجت قنوات كثيرة ومواقع «إنترنتية»، لا تعد ولا تحصى، تصفحوها بتمعن، ستجدونها طبولاً للحرب والتجييش تقرع، كل المذاهب والفرق يلعن بعضها بعضاً، وتقحم السياسة والسياسيين وسائط في ما بينها، لماذا انحسرت الرحمة والعدل عن قلوب وعقول هؤلاء؟ ثم لماذا تضاءل الوطن أمام سلطة الشبهات العقدية؟ لماذا يبتغون تقويض الأمن والعدالة والسماحة بينهم بحروب كلامية تبنى على أهواء؟ ألم نتعلم الدرس جيداً بعد، ونعي طبيعة المرحلة؟ المصريون اليوم بعد ثورتهم المباركة انقسموا إلى شيع وأحزاب، فلا تستغرب وأنت تصافح أحدهم أن يسألك قائلاً: هل أنت سلفي أم إخواني؟ كل ذلك حتى يحدد موقعك منه، بينما بدت الصورة لدينا تأخذ كينونة مغايرة تماماً بالاتكاء على البنية الحركية الدينية، تلك التي لم تنفصل عن الأذهان يوماً ما، حتى مع فعاليات الإرهاب وما أفرزه! هذه الكينونة الأخيرة فصمت عرى المجتمع إلى سلفي تبليغي يمقت الإخوانيين، وصحوي إخواني متشدد، وشيعي ليبرالي، وشيعي متزمت، وصحوي ليبرالي يستمد ليبراليته من داخل الوعي الإسلامي برؤية مفلسفة، وليبرالي سني لا يبتعد كثيراً في رؤيته للأشياء حتى تبدو لدى البعض سطحية، هؤلاء الثلاثة الأخيرون لا نتحرى منهم حراكاً ظاهرياً وتعدياً يتجاوز المنطق والجدل، بينما الإشكالية في كينونة الحركة الصحوية الجديدة بشقيها الشيعي والسني، إذ شرعت تخرج عن إطارات الجدل والحوار إلى ما هو أبعد من ذلك، مستخدمة أدوات جديدة، أكثر ندية من خلال زرع الضغينة في قلوب الشباب تجاه الأفكار والأشخاص، وتحفيزهم لاختراق النظام، واستخدام العنف، ودرءاً لكل ما قد يقع قد يُلجأ إلى إلغاء فعاليات ثقافية، أو محاضرات لكُتّاب غير مرغوب فيهم، كما حدث ويحدث. هذا التسليم لإرادة أحادية الجانب ستقوي من شوكتهم، وتحفز الآخرين على اقتراف ما لا يحمد عقباه، ما دامت الكرة في مرماهم من دون غيرهم، ما سيتسفز بعض المناوئين لهم ويلقيهم في حمأة المقت المؤدي إلى كفر بواح، فإذا كان الدين لا يخرج إلا عبر مفرزات مجيشة بالشكوك والضغينة والمصادرة، فكيف يمكن للشباب النابهين أن يفهموا الدين خارج هذا التصور؟ برأيكم ما الحل؟ هل الحل عند محمد العريفي، أو تركي الحمد، أو حسن الصفار، أقول إن الحل الطبيعي يكمن في تعميق سلطة الدولة في النفس وجعلها موازية لعقيدة الإنسان، فمتى كانت هذه السلطة تقيم العدالة بيننا فستمنح حق المساواة وسيتحقق الأمن الحامي لضرورات الإنسان الخمس. إذن نحتاج إلى مزيد من التفكير في هذه المسألة حتى لا نصل إلى كارثة لا تُحمد عقباها. فتعالوا إلى كلمة سواء... لنفكر معاً. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] @almoziani