هي عدوى بالفعل وآفة من الآفات وطامة من الطوام التي ابتلينا بها في هذا الزمان المتأخر الذي عم فيه الجهل وطم. ومن العجب أن نهتم بمعالجة آفات الجسد أكثر من اهتمامنا بمعالجة آفات النفس. ليس بيدنا مفاتيح الجنة ولارحمة الله ولسنا موكلين بهداية غيرنا من الناس ولسنا مطالبين بتقديم تقارير عن البشر فربهم أعلم بهم إن يشأ يرحمهم أو إن يشأ يعذبهم، وهو الذي يملك هداية البشر ولانملكها وليس بيننا وبين الله قرابة أو نسب تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولسنا واثقين من خواتيمنا، ولانأمن الفتنة على أنفسنا، ولاندعي علم الغيب، ولا نحول بين أحد وبين التوبة، ولاندري مايفعل بنا. إذا مادام ذلك كذلك فلماذا هذا الاهتمام المتزايد والاستقصاء المتكلف بتصنيف بني البشر والحكم عليهم وكأننا موكلين بذلك بل يشغل البعض أنفسهم ويتسلقون الصعب لكي يملؤا خانات التصنيف لديهم برجال أو نساء من بني البشر ليرمقوهم بعين الإزدراء ويكيلوا لهم الكره كيلا ولايقبلون منهم صرفا ولاعدلا. إن رسول الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صبر وصابر، ودعا وحلم، وأمهل وأنظر حتى كان ألد أعدائه يأتيه منقادا مبايعا على السمع والطاعة كل ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يصنف البشر أو يستعجل الدعاء عليهم بل كان يريد الهداية لهم ويتمناها يتضح ذلك في مخاطبته لملك الجبال عندما خيره بأن يطبق عليهم الأخشبين وهما جبلين عظيمين في مكة فرفض عليه الصلاة والسلام ذلك العرض وهو الذي قد ناله منهم ماناله وقال: لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولايشرك به شيئا. ثقافة حب الخير للناس كلهم على اختلاف مللهم ونحلهم، ثقافة التسامح والعفو. يقول الله عز وجل لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : وماجعلناك عليهم حفيظا وماأنت عليهم بوكيل، ولقد كان المنافقون منتشرين في أزقة المدينة النبوية يخالطون الناس ويخالطهم الناس لايعرفهم إلا القليل من الصحابة كحذيفة بن اليمان أمين سر الرسول صلى الله عليه و سلم حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جلال قدره وعلو كعبه في الإسلام كان يلح على حذيفة أن يخبره إن كان منهم ( أي من المنافقين) فيجيبه بأنه ليس منهم ثم يستطرد حذيفة بأنه لن يجيب على أي تساؤل قادم بهذا الخصوص. سبحان الله لماذا لم يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم أسماءهم للناس؟ لماذا لم يصنفهم؟ لماذا لم يطردهم؟ لماذا لم يفضحهم؟ لاتستعجل أخي القارئ الكريم الجواب فلعلك تجده في ثنايا المقال. عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق- إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ( رواه البخاري ومسلم). لانسب بيننا وبين الله ولاقرابة ولاندري مايفعل بنا والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء: يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. كم رأينا من أناس التزموا المحجة البيضاء زمانا ثم حادوا وبدلوا وغيروا، وكم رأينا من قارفوا المعاصي وكبائر الذنوب ثم تابوا وأنابوا وأخبتوا إلى ربهم. وقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله عز وجل. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره.التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه، وفيهما ولا تنافسوا، ولا تهاجروا، ولا تقاطعوا. إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"( (رواه مسلم) إن المسلم يغفر ويتسامح، ويتمنى الخير للمسلمين، وأن يرحمهم الله، ولا يتمنى تجريمهم وتفسيقهم وازدراءهم والحط من مكانتهم والتشهي بالنيل منهم. إن حمى التصنيف التي اجتاحت عالمنا الإسلامي في النصف الثاني من القرن الماضي ألقت بظلالها على العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم بل صار الولاء والبراء والحب والكره والانتماء والاستغناء والمحبة والعداوة تبعا لانتماء المسلم الحزبي حتى صار التصنيف فاكهة يتشهى آكلوها بمضغها، فهذا اخواني وهذا سلفي وهذا ليبرالي وهذا علماني وهذا تبليغي وهلم جرا. ولاشك أن هذا المسلك الخاطئ مستنكر مستهجن في القرون المفضلة ، وقد حذر منه علماء السلف أيما تحذير فهو الداء الوبيل والمنهج الخطير، وقد ترتكب الكثير من المخالفات الشرعية باسم الولاء للجماعة فيقدم من ليس كفؤا لمجرد انتمائه لحزب أو جماعة، ويقصى الرجل الكفوء لعدم انتمائه لهذا الحزب أو ذاك. لم نعهد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تصنيفات بين المسلمين حفاظا على وحدة الصف المسلم ، ولعل التصنيف الطريف الظريف ( إن جاز لنا أن نسميه تصنيفا) هو أهل الصفة وهم فقراء الصحابة الذين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستقبلهم ويدعوهم إلى طعامه ويوصي بهم بقية الصحابة. إن هذه التصنيفات الجائرة كان لها دور فاعل ومؤثر في اضعاف لحمة المسلمين وتبادل الاتهامات بينهم وشق الصف المسلم. وماابتلينا بداء أعظم من هذا الداء ولا بمحنة أعظم من هذه المحنة. إن دين الإسلام كان واضحا غاية الوضوح عندما أعلن منهجه للبشرية كلها، منهج يقوم على عبادة الخالق عز وجل وافراده بالعبادة، وعندما قرر بأنه لافضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إذا الميزان هو التقوى لاالانتماء الطائفي أو القبلي أو المذهبي أو الفئوي، وعندما ننتقل من هذه الدار لن نحاسب بناء على انتمائنا بل بناء على معتقدنا وعملنا. إن الانتماء إلى حزب ما أو جماعة قد يؤثر على ميزان المسلم في تعامله مع محيطه فهذا الانتماء ينمو عنده مع الأيام والإنسان اجتماعي بطبعه فيرى الناس حوله كثيرين فيقوى بهم ويؤثرهم على غيرهم من المسلمين بهذا الاعتبار فقط اعتبار الانتماء على حساب موازين أخرى قد يهملها وهي في الإسلام حجر الزاوية. كان لهذه التداعيات أثر كبير في اضعاف الصف المسلم حتى الانتخابات النيابية في بعض الدول العربية أصبحت على أساس الانتماء الحزبي وإن كان القانون يحظرها نظاما لكنه يقر بوجودها على أرض الواقع ويقبلها كتيارات ممثلة لشريحة أو شرائح من الشعب ، والعجيب الغريب أن كل تلك الأطياف تتوجه إلى قبلة واحدة وتصطف في المسجد دون تمايز لكنها في أتون الحياة تتفرق تبعا لانتماءاتها التي ماأنزل الله بها من سلطان. ماأجمل وماأحكم أن يكون الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله لالسبب دنيوي أو دنيا مؤثرة ، فقد أخرج البخاري و مسلم في صحيحيهما من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار). والسبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه. فبهذه الصفة العظيمة استحقا أن يكونا تحت ظل الرحمن. وقال الإمام السعدي رحمه الله تعليقا على قول الله عز وجل في سورة التوبة آية 24 : قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ : "قل إن كان آباؤكم " ومثلهم الأمهات " وأبناؤكم وإخوانكم " في النسب والعشيرة " وأزواجكم وعشيرتكم " أي : قراباتكم عموما " وأموال اقترفتموها " أي : اكتسبتموها ، وتعبتم في تحصيلها . خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ، ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كد . " وتجارة تخشون كسادها " أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك . " ومساكن ترضونها " من حسنها وزخرفتها ، وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء " أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله " فأنتم فسقة ظلمة . " فتربصوا " أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب " حتى يأتي الله بأمره " الذي لا مرد له . " والله لا يهدي القوم الفاسقين " أي : الخارجين عن طاعة الله ، المقدمين على محبة الله ، شيئا من المذكورات . وهذه الآية الكريمة ، أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من المذكورات أحب إليه من الله ورسوله ، وجهاد في سبيله . وعلامة ذلك أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه الله ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يفوت عليه محبوبا لله ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه الله ، دل على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه . مما سبق يتضح لنا فداحة الموازين المقلوبة وفقا للانتماء لا لشرع الله مما أحدث ويحدث شرخا في الصف المسلم. إن الله عز وجل لم يتعبدنا بالانتماء لحزب أو جماعة نغضب لغضبها ونفرح لفرحها ونعادي من يعاديها حتى لو كانت مخطئة ونحب من يواليها حتى لو كانت مخطئة. الحزبية من صنع البشر ماأنزل الله بها من سلطان وليست هي التي تحدد موازين البشر ودرجاتهم. إنها مرحلة عابرة تلك التي نحياها فوق هذه البسيطة والسعيد من كان على بينة من ربه على هدى بين ومنهج واضح لاتبدله الانتماءات ولا الولاءات. المسلم (بغض النظر عن انتمائه لحزب أو جماعة) له شأن عظيم وله حصانة ربانية لاتبلغها أي حصانة في الدنيا. ماأجمل أن يكون حبنا وولاؤنا وصلتنا لله وفي الله لالغرض دنيوي أو انتماء حزبي. ماأجمل أن نزن الأمور بميزان الشرع لاميزان الهوى، فالهوى يضل عن سبيل الله ويوقع في مهاوي الردى. هي كلمة نابعة من القلب أنصح بها نفسي وإخوانا لي انغمسوا في حمأة الانتماءات فصار الحق باطلا والباطل حقا فارتكسوا في كثير من أمور دينهم واختلطت أولوياتهم واضطربت موازينهم فحري بهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويدركوا ( قبل فوات الأوان) أن التحزب بغيض مبعد للإنسان عن المنهج الصحيح، وفي قرآننا ومنهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الغنية والكفاية لايزيغ عنهما إلا هالك فهل ندرك فداحة الخطب وعظم المسؤولية؟ [email protected]