لم يكن لعلمائنا الأجلاء الكبار الذين قضى أكثرهم نحبهم وتوارى البقية بحجاب الزهد، أولئك الذين ما زلنا نترحم عليهم ونكن لهم كل احترام، لم يكن لهم مثل هذه الهالة الإعلامية، ولا فيالق من المصطفين خلفهم ليشدوا من أزرهم يتقوون بهم، بمثل ما للمحدثين من وعاظ زماننا، المتسابقين على كل نافذة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة؟ لماذا ياترى؟ أقول ببساطة متناهية، لأن أولئك السابقين هم حقيقة وعي الأمة المطلق، يعبرون فيما يفوهون به عن روح الإسلام وسماحته بعلم وحكمة. ومادتهم «قال الله وقال رسوله» وعدتهم أخلاق المصفى صلى الله عليه وسلم، وهو حاضر معهم صلوات الله سلامه عليه في أخلاقهم يستحضرونه في أقواله وأفعاله: صبر على الشدة وشكر على الرخاء والميسرة، تبدو أخلاقه جلية مع المنافقين والكفار، يغض الطرف عنهم وهو يعلم تربصاتهم له ومحاولة الإيقاع به ما لم يحدث منهم فعل مشهود. كان صلوات الله وسلامه عليه يعلمهم علم اليقين فلم يظهرهم على الناس كي لا توقع الفتنة، تلك التي لَعنَ كلّ من أيقظها! اليوم أطلعتنا القنوات الفضائية على مزاد للوعاظ الذي لا يفتؤون يحرضوننا حتى على أنفسنا، بأدوات مملوءة بالكراهية والمقت، ليس في أصل أحاديثهم مكان للحِل أو الإباحة بقدر ما هو منتجع للبغضاء والتفرقة، أقول «مزاد» قاصداً متعمداً، فالقنوات الفضائية أصبحت تزايد على الدين من خلال وعاظ اليوم، وتزايد عليهم ليستأثروا ببعضهم خصوصاً أولئك الذين يحرثون رغبات الفتيات وغواياتهن، ويوغرون صدور الشباب، لم تمتنع عنهم حتى القنوات المحسوبة على الأديان السماوية الأخرى، لما يحققه أصحاب الوجوه اللامعة والذقون الناعمة، فاحمة السواد، شديدو بياض الثياب، لا يرى عليهم سوى أثر النعيم بعباءاتهم المقصبة. ولا أحد يملك إلا الإذعان، لأنهم يصدرون عن «قال الله وقال رسوله» في تخبط مزر وتأويل ممقوت. أذكر أن أحدهم كان يصف عمر بن الخطاب بالجبن لأنه آثر أن يذهب عثمان بن عفان ليجادل كفار قريش في الحديبية بدلاً عنه. وهو الذي قال: إن عائشة رضي الله عنها شتمت صفية وأفاض في شرح عبارة «حسبك من صفية»! طبعاً هذا الواعظ أرومة نجدية قحة، ذيّل اسمه بالدال المعظّمة! وآخرُ ليس له من رائحة العلم إلا النزر القليل، تلقى علوماً «مستعجلة» بين أيدي العلماء، ثنى ركبه لياليَ معدودة، ثم نهض يجتر ما قدرت ذاكرته على حفظه، يمرغه بنكاته السمجة، يحوّمها بين أصقاع العالم بشكل فضائحي، ما يعكس عمق تخلف الأمة الإسلامية أكثر من تقدمها. وآخر تلتصق به نياشين الصفات العظيمة. لا يفتأ يختلق القضايا محارباً ومدافعاً وهو بين هذا وذاك يقبض الثمن، قال لي ذات مرة في لقاء فضائي جدلي ندمت عليه عندما لمته على محاولته تقسيم مجتمعنا ما بين إخواني وصحوي وسلفي وعلماني وليبرالي، قال بالحرف الواحد: «دعنا نرتزق». والسؤال: إلى متى يسمح ل«المرتزقة» بتمثيل الإسلام بطريقة سمجة وفضة، ثم يحمون تحت مظلة الأنظمة؟ بالله أعيدوا إلينا علماءنا الأفاضل، أحيوهم في أهل الحديث، رحم الله ابن مسعود الذي استشرف ما نحن فيه إذ قال: «في آخر الزمان يكثر الخطباء، ويقلّ الفقهاء». * كاتب وروائي سعودي. [email protected]