من المثير للانتباه والحس السليم، أن افراد الطبقة السياسية اللبنانية (وبعض الثقافية) يتعاملون مع الثورات العربية معاملة برانية، فيسلكون مسلك المراقبين، محللين، ناقدين، محتفين، مهللين، وإذا اختلفوا حول مسار إحدى الثورات تراشقوا الشتائم، بحماسة الأنصار في مباراة لكرة القدم وبحماسة المراهنين في سباق الخيل. ولتفعيل تعاطفهم وتضامنهم وبهجتهم يبادرون الى عقد المؤتمرات والندوات والمناظرات وإطلاق التصريحات، وإذا عجز الكلام عن التعبير عن حميتهم اعتصموا في ساحات المدينة من دون كلل، وبروح مركنتيلية عالية، كأن لبنان ليس دولة يجوز تطبيق شبكة مفاهيم الثورات عليها، بل مجرد مدينة إعلامية صوتية، مدينة مناصرين Supporters متفرجين ومتواطئين. ففي جميع مقارباتهم، يتعامل السياسيون اللبنانيون وأنصارهم مع الثورات العربية كخبراء محلفين في علم الثورات ومآلاتها: مضمرين بخبث أنهم أنجزوا ثوراتهم وإصلاحاتهم، وأنهم نموذج يقتدى في اطلاق الحريات وفي التعدد السياسي الحقيقي وفي احترام المواطن. وليس في لمقابل مَن يُشهِر خطاباً متماسكاً يفضح فيه زيف الادعاءات المضمَرة، داعياً شهود الزور على الثورات العربية الى الخجل، والتزام قواعد الحشمة والخفر، معلناً بجسارة ان الحريات السياسية المتاحة في لبنان هي السبيل الأيسر الى الاستبداد، وأن هذه الحريات هي الضمانة المثلى لإطلاق حرية رأس المال بلا قيد أو شرط وعلى حساب الغالبية العظمى من اللبنانيين. إن ما يحياه اللبنانيون هو المفهوم السلبي للحرية الذي يعني غياب العوائق التي تحد من قدرة الإنسان على ان يفعل ما يشاء، ويفضي هذا المفهوم لبنانياً الى ان تفعل سلطات الطوائف السياسية في الأفراد ما تشاء، ساعة تشاء، مرةً في اقطاعاتها، ومرة اخرى بتشاركها مع «ممثلي» الطوائف الاخرى باتخاذ القرارات العامة، وهو المفهوم ذاته يقضي باستقواء المجتمع الأهلي على القوانين تمثلاً بحكامهم، أي على ماهية الدولة، وانتهاكها، وهذه النقطة تستحق نقاشاً مستقلاًّ. وفي المقابل، يعني مفهوم الحرية الإيجابي مجموعةَ العوائق التي تضعها السلطة السياسية (الدولة وأجهزتها) وتمنع بواسطتها المواطن، لأي طبقة انتمى، بما فيها الطبقة السياسية، ان يفعل ما يُعتبر إضراراً بالمصلحة العامة. لا نلوم المتابعين العرب على عدم قدرتهم على تشخيص أعراض نقص الحريات في لبنان، وعلى عدم فهمهم كيفية اشتغال النظام اللبناني، حين يظنون انه بلد ديموقراطي، ففهم آليات اشتغاله عصيٌّ على بعض أهله، على الأقل على جماهيره، فما بالك بالغرباء. سنتناول ها هنا اوهام الحريات السياسية المزعومة، كما تداعيات الحريات الرأسمالية النيوليبرالية، اللصيقة بالحريات السياسية الطائفية كتوأمها: بداية نتناول «حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة»، التي تعتبر مدخلاً للتفكير والتعبير واحتمال التغيير السياسي، التي تكفلها المادة (13) من الدستور اللبناني. إننا نجد الواقع الإعلامي يعطل هذه الحرية، فوسائل الإعلام الجماهيري حكر على التيارات السياسية الحاكمة وحلفائها، ولا مكان حقيقياً لمعارضي النظام على منابرها، لكن مواد الدستور المذكور، لا تلبث ان تتناقض حين تجيز للطوائف الروحية في لبنان مراجعة المجلس الدستوري اذا هُددت مصالحها الطائفية (المادة 19). ولم تبق هذه المادة حبراً على ورق، فكثيراً ما تدخلت وتتدخل الهيئات الدينية لمنع عرض فيلم سينمائي او مسرحية او أغنية، كأغنية «يوسف» لمارسيل خليفة، بدعوى ان هذه الأعمال الإبداعية تسيء الى القيم الدينية، ومن يعرقل التعبير يعرقل التفكير والإبداع في آن. وأحياناً تقوم لجنة المراقبة على الأعمال الإبداعية في «الأمن العام» اللبناني مقام الهيئات الدينية والطائفية، أي ان القوانين الدستورية، كما اجهزة النظام، حريصة على عدم المساس بأسرار تشكل الجماعات الطائفية ومسوغاته. والمساحات المدنية في لبنان غامضة وملتبسة، ومعظمها متأثر بالانقسامات السياسية الطائفية، فنحن إذاً إزاء حريات تعبير مبتورة، يتيحها الدستور ثم يكبلها، والحريات التي لا يكبلها الدستور تكبلها الطوائف، كما هي الحال في وسائل الإعلام. أما الحريات السياسية المتمثلة باختيار اعضاء المجلس النيابي، اي الهيئة التشريعية، التي تختار حكومة البلاد ثم رئيس جمهوريتها، فلقد أضحى مملاًّ القول إنها صورية وشبه محصورة بانتخابات نيابية محجوزة لرموز ثابتة، لا يجرؤ احد على منافستها، ويشارك فيها اللبنانيون كجماعات لا كأفراد، وكأنهم في جمهوريات مستقلة، وفق صيغة تؤبد هذه الرموز، تماماً كما في نظام المقاطعجيين البائد، وهذا النظام يلغي إرادة المواطن اللبناني السياسية ويذيبها في إرادة جماعية هلامية، تبدو منصهرة، متجانسة المصالح، وهي ليست كذلك بالعمق، ولا تزال هذه القوى تقاوم أدنى تعديل لغير مصلحتها في النظام الانتخابي. ديموقراطية لا تحفل بالفرد وهذا النظام الانتخابي هو بالتعريف الأولي غير ديموقراطي، فجوهر الديموقراطية هو التركيز على أهمية الفرد وضرورة تحرره من كل انواع السيطرة والاستبداد، بما فيها سلطة الجماعة، فالديموقراطية السياسية تقضي بأن يكون جميع الناس سواسية أمام القانون، وان توزيع الحريات والوظائف والموارد على اساس دين الفرد يعتبر تمييزاً ينال من حقوق الآخرين، وان الاحتكام الى التنوع الثقافي والديني لا يفوق قيمة الحقوق السياسية الليبراليبة الاساسية، فالمجال العام هو نوع من التسوية تستدعيها حاجة الاشخاص الذين يتبعون أساليب حياتية مختلفة الى وضع مجموعة من المعايير المشتركة لتنظيم التفاعل بينهم، باعتبار ان التفاعل امر لا يمكن تجنبه. إن عدم وجود مؤسسات ديموقراطية ليبرالية تتعاطى مع الافراد كأشخاص مستقلين ذوي اخلاقية فردية، وحساسية سياسية خاصة بهم، يؤدي الى الفشل الفعلي لمبادئ الديموقراطية التي تحقق المساواة، لأن تلك المؤسسات ترتبط بالتوزيع الملائم للإرادات السياسية، وكذلك توزيع الحقوق الفردية، كما أنه لا يمكن ان تكون نتائج الديموقراطية عادلة في مجتمع يحتوي على أعداد كبيرة من الناس ليس لديهم أي حس بالتعاطف مع مواطنيهم. هذا النظام مناقض تماماً اذاً لفلسفة الديموقراطية، وهو لم يثبت فوق ذلك نجاعته، خلافاً لأناشيد التنوع والتعدد والحرية الرسولية، ويكفيه انه آل الى دولة غير موحدة وغير متماسكة وغير موضوعية وغير حيادية، لكن أعراض النظام الاستبدادية لا تظهر للعيان، فلا سجناء سياسيين فعليين، ولا تزوير مباشر للأصوات في الانتخابات (علماً ان ترشح بعض الاشخاص المستقلين في الاقطاعات السياسية كان يعرضهم لمضايقات وضغوط لا توثقها وسائل الإعلام)، ولا قمع للتظاهرات المطلبية الشحيحة، والمناظرات السياسية التلفزيونية الملتهبة توهم بحرية التعبير. ثمة حرية أخرى ينص عليها الدستور اللبناني في مقدمته كركنٍ مقدس للنظام، وهي الحرية الاقتصادية، اي حرية رأس المال، التي تتواءم مع المفهوم السلبي للحرية، التي تعني غياب العوائق التي تحد من قدرة الإنسان على ان يفعل ما يشاء، ولبنان الأمين للقب الذي أطلق عليه عام 1880، وهو «جمهورية التجار»، قفز سريعاً منذ بداية التسعينات الى «الليبرالية المحدثة» او النيوليبرالية. فهو نيوليبرالي يُشرِّع حكامه منذ التسعينات الاسواقَ اللبنانية على مصراعيها امام السلع الاجنبية، من دون اكتراث بالسوق المحلي، وفوق ذلك فرضوا رسوماً على السلع الوطنية المصدرة الى الخارج، كما ألغوا القانون القاضي بتدخل الدولة في تحديد أسعار السلع الاساسية، عملاً بقانون التنافس، وبمبدأ «اليد الخفية» للسوق. غير ان مبدأ التنافس يضمحل امام السياسات الاحتكارية، ولبنان بلد تحكمه الاحتكارات، فالوكالات الحصرية هي المسيطرة على السوق، والطاردة لبضائع غيرها المنافسة والبديلة، ربما كان لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي وضعت تشريعات تحمي الوكالات الحصرية بالقوانين، وربما كان ايضاً الدولة الوحيدة في العالم التي تسمح وتشرع لقيام سوق مالية احتكارية يملك بعض السياسيين أسهماً مالية فيها. أما سوق مشتقات النفط، فتتقاسمها القوى السياسية الطائفية والحزبية الحاكمة، وكذلك سوق الدواء وسوق أكلاف البناء وغيرها، أي أن نظامه الاقتصادي هجين نيوليبرالي واحتكاري في آن، يتكيف مع حاجات القوى السياسية والاقتصادية المسيطرة وشهواتها الربحية، جامعاً بين الحرية المفرطة وتقييدها بالاحتكارات، خلافاً لنظرية اقتصاد السوق ذاتها، مما ينعكس ارتفاعاً عشوائياً في الاسعار، اي في تخفيض قدرة المستهلكين الشرائية من دون رمشة جفن. وأحد التيارات السياسية مولع بالخصخصة كواجب نيوليبرالي، ولقد تمت خصخصة الاتصالات والبريد والإنترنت والمعاينات الميكانيكية، وجمع القمامة، وخصخصة الخاص (سوليدير) وغيرها لمصلحة اهل النظام، ويتردد ان اهمال مؤسسة الكهرباء المزمن يعود اصلاً الى الرغبة في خصخصتها. ومن جهة اخرى، أدت الإستراتيجيات المعتمدة منذ التسعينات لتخفيف الأعباء عن كاهل ارباب العمل، الى تخفيض مساهمة هؤلاء في صندوق الضمان الاجتماعي (مما أوقع هذه المؤسسة في عجز مالي)، وإلى تخفيض نسبة الضرائب المفروضة على ارباحهم، الى 13 في المئة، وهي -على ما يقول الخبراء- الأدنى في العالم، علماً ان التهرب من دفع الضرائب فن يتقنه اللبنانيون، إذ إن نسبة الضرائب على الأرباح تتراوح في البلدان الغربية بين 30 و 43 في المئة . تترافق كل هذه التدابير مع إهمال مفضوح لحاجات الطبقة العاملة المنتجة لمصلحة أرباب العمل، والذي بلغ ذروته في المعركة الأخيرة بين وزير العمل شربل نحاس، الضنين بحقوق العمال، وهو اول وزير منذ عشرين عاماً يحول حقوق العمال الى قضية، وبين أرباب العمل المتحالفين مع اتحاد عمالي مشكوك في مشروعيته. في هذه المعركة، وقفت غالبية القوى السياسية الى جانب أرباب العمل، ونُسف مشروع شربل نحاس، خلافاً لقوانين العمل بلا ارقام، التي أقرت عام 1973 في عهد الرئيس شارل الحلو، استكمالاً للإصلاحات الشهابية، والتي تقول بقيام الجهات الرسمية بتصحيح الأجور تصحيحاً دورياً، مرة كل سنتين على الأقل، الأمر الذي لم يحدث منذ 1996، على رغم ان نسبة التضخم بلغت 100 في المئة . وتكرر في النقاشات الرائجة أن اقتصاد لبنان حر وقائم على حرية التعاقد بين ارباب العمل والعمال والحجة الأخيرة ينفيها جزئياً قانون العمل الذي يقول بالتصحيح الدوري. وانطلق اللبنانيون العاديون في تعليقهم على موقف نحاس من موقعهم في الاصطفافات السياسية، فنقم عليه بعض الأُجراء الفقراء وعابوا عليه تصلبه لمجرد أنه ينتمي الى تيار سياسي مضاد لتيارهم، مفصحين عن الدرك الذي وصل اليه وعيهم الاجتماعي والحقوقي. وهذا الوعي إنما هو في الحقيقة صانع الثورات العربية، إلى جانب الكرامة السياسية. أما الطبقة السياسية، فتحالفت بجميع اطيافها ضده، مبرهنة على تحالف طبقي لا يقهر. اي ان الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ 1992 تقف الى جانب حرية رأس المال من دون قيد او شرط، واذا اصاب موزانتها وهن عالجته بمزيد من الضرائب T.V.A تساوي بين الاغنياء والفقراء. وبالمحصلة، أدت الحريات السياسية المعمول بها في النظام اللبناني الى تجميد حرية الأفراد ومصادرتها، بقوة البروباغندا او قوة الأمر الواقع، وتحولت استبداداً. اما «الحريات» الاقتصادية، فهي على صورة النظام وأهله، أي أنها وسيلتهم لضمان مصالحهم الاقتصادية والمالية. وبالتالي، ليست الحريات التي يفاخر بها اللبنانيون سوى علامات على نقص هذه الحريات وتهافتها. * كاتبة لبنانية