لم تقبع تلك المرأة المتقدمة سناً في منزلها، بلا حراك؟ إنها رهينة لمجتمع كامل، وماضٍ لا يحمل في مضمونه غير الذكريات القاسية. وبالتأكيد يُلخّص الماضي شكل حاضرها؛ امرأة تابعة للرجل، باستمرار، إذ يُقرّر الأب من ستتزوج، ويمارس الزوج خيانته، وينفي الابن عنها شرعيتها كأم، من خلال عدم الاكتراث بها كإنسانة كهلة. قدّم النص المسرحي السوري المونودرامي «ليلة الوداع» شخصية نمطية جداً، رغم تكثيف كاتبه جوان جان (رئيس تحرير مجلة «الحياة المسرحية») الأحداثَ المؤثرة في الشخصية، على لسانها، من خلال المونولوغات المتقاطعة، والمتداخلة بين الوعي واللاوعي، وما يؤخذ على الشخصية أنها سيدة قرارها الإنساني، وأنها صنعت مصيرها بنفسها. النص المنشور عام 2009 في مجلة «الموقف الأدبي» المحلية، وجد طريقه إلى العرض على خشبة مسرح القباني، بعد أن أعيدت صياغته باللهجة العامية السورية، لتخرجه السورية سهير برهوم، في أولى تجاربها، وينتجه المسرح التجريبي في دمشق، وقد طُوِّر شكل النص، وفق رؤية المخرجة، والممثلة فيلدا سمور بالتوازي مع ملاحظات الكاتب، وهو في صيغته النهائية، جُرِّد من كثير من التفاصيل الرتيبة، كانتظار المرأة (حياة) مَن يأخذها إلى مأوى العجزة، أو شرودها في استذكار العنف الممارس عليها من الزوج، أي تم التركيز فقط على مشاعر الوحدة، وقد نجحت برهوم في تقريب الهوة اللحظية بين النص الاجتماعي والجمهور، حين بدأت المشهد الطويل (50 دقيقة)، بانقطاع الكهرباء، وتخبّط حياة (فيلدا سمور)، محاولةً تهدئة ذاتها الخائفة من العتمة، لتظهر على الكرسي المتحرك متذمرةً، في شكلها الساخر، وتبيّن من حركتها لاحقاً، أن الكرسي ما هو إلا صديق للوحشة، فهي تتحرّك فجأةً كصبية، أو ترقص أمام المرآة، لتغوي ذاكرتها. تتقمّص حياة كل الشخصيات المؤثرة في حياتها: أبيها، ابنها نديم الذي نبذها في منزل صغير، وابنها الأصغر مهند الذي مارس ذكوريته على أخته سلمى لأنها أحبّت رجلاً من دون علم العائلة، كما تستجمع المرأة الكهلة ملامح زوجها من إطار صورته الفارغ، تحاوره، وتهزأ به، وربما تكون معضلة هذه الشخصية، في أن أباها المحافظ، منعها عن الشاب الذي أحبّته، وكان يمتهن المسرح، لقد صرخ في وجهها: «ما بعطي بنتي لشب بيشخّص بالتياترو»، والحجة أنه يعتبر كل من يعمل في هذا المجال خارجاً عن الدين، ولا يُفرّق الأب هنا، بين التياتروهات والكازينوات. تُكثّف مسرحية «ليلة الوداع» الوحدة الكهلة، وهي تطرق بقوة على باب المجتمع الأصم، فكثيرات هن السيدات اللواتي يُبعَدن عن الحياة الاجتماعية، وفي هذه الحال، لا يعدو المجتمع كونه أصواتاً مرتفعةً للشارع والسيارات المارّة، أو صوت تلفاز يحتدّ فيه النقاش السياسي، أو مواء قطة، لا تكترث بمن يقطن المنزل، بل تلاحق هي الأخرى غريزة البقاء لديها، بينما تتعلق المرأة بالسراب القادم (الآخر)، تُعلّق أملاً على رنة الهاتف، ثم الصوت البشري المخطئ في الطلب، كل هذا عبر سرد سريع للقصص والأحداث، وانتقال رشيق للممثلة بين الحالات الانفعالية المتناقضة، فتبدو أشبه بامرأة خَرِفة ومصابة بالهستيريا، لا يستطيع أحد تهدئتها أو إسكاتها. استفادت المخرجة برهوم من مساحة المسرح الضيّقة، ونصبت فستاناً وبدلة رسمية، على طرفي المسرح، فتارة الفستان هو الابنة، وطوراً هو حياة ذاهبة إلى حفلة لصباح فخري، وتنتمي حياة إلى طبقة اجتماعية متوسطة، فحين يجد زوجها بطاقتين لحفلة فخري، يُقرّر بيعهما، ويختلق مشكلة مع شخص من الحضور، لأنه يرتبك من دخول الأماكن المترفة، كما تسيطر على عقلية حياة سذاجة كبيرة، فقد كانت ترفض أن تأخذ النقود كأجرة على الثياب التي كانت تخيطها للأصدقاء والمحيطين بها، ويتحوّل دولاب الكرسي في أحد الومضات إلى عجلة ماكينة الخياطة، المتسارعة، أي أن العجز الذي تعانيه اليوم، ما هو إلا شكل ماضيها، وطاقتها التي أفنتها في غير جدوى. ما تنتهي إليه مسرحية «ليلة الوداع»، يحتمل أمرين، فإما أن المرأة قد أمسكت مقبض الباب لتخرج إلى حياة جديدة، تستطيع فيها الاندماج مع المجتمع، أو أنها وصلت إلى اللحظة الأخيرة من تفاقُم وضعها الصحي النفسي، فخرجت إلى حيث لا يجدها أحد، لكنْ، منذ البداية لم يكن هناك من يهتم بها أو يبحث عنها، فحتى ابنتها سلمى التي تبدو من خلال مسار أحد المونولوجات رؤوفةً بها، تهرب مع حبيبها، دون رجعة أو سؤال عن الأم؛ إنه بيت سوري، لا يريد أحدٌ البقاءَ فيه، بيت مبنيّ على كذبة اجتماعية واهية، هي العائلة المثالية، في حين أن كل شخصية تريد العيش وحدها، وعلى طريقتها الخاصة، وإلى أبعد حدٍّ ممكن من الخصوصية، وكأنها ترفض كل أنواع الالتصاق العائلي السابق، فتصنع حيّزاً نهائياً فاصلاً حُرِمت منه طويلاً.