استهل الدكتور عبدالعزيز الثنيان كتابه «إنسانية ملك» بقصة عجيبة كما وصفها، رواها ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز عن بعض الثقات، أن شخصاً من كبار الجانحين حاول منازعة الملك عبدالعزيز السلطة فتمرد، وعندما ضاقت على الرجل الأرض بما رحبت سلّم نفسه فأمر الملك بإكرامه، وأصبح من رجال الملك ومن المرافقين له في مركبته، ومن حراسه المقربين. وكان يقول لمن يذكره بماضي المحيطين به: «لقد أعدت ضمائرهم إليهم، وإني أكاد أقرأ ما يجول في نفوسهم من أسف وندم على ما صدر منهم». وقال لمن جاءه يهنئه باغتيال الشريف الملك عبدالله بن الحسين: «هل أشمت بموت الملك عبدالله؟ وهل يشمت عاقل بموت الناس؟ لا يشمت إلا الجبان الرعديد، إن اغتيال الناس مهما كان سببه ليس من الرجولة ولا من البطولة، بل نوع من الخبل، ولا يشجع عليه إلا رجل تنقصه الشجاعة والرجولة». كان ذلك ما تعلمه الراحل من مدرسته التي وصفها بالقول: «لم أتعلم في مدرسة، بل علمتني التجارب وعلمني اختلاطي بالرجال، وسماعي كثيراً من أخبار عظماء التاريخ». ويقول المؤلف إن قراءة سيرة الملك عبدالعزيز وتأمل مواقفه تؤكد أنه استمال القلوب قبل الأجسام، وساد بالعقل قبل السيف، وملك بالرقة قبل القوة. فقد قال يوماً للشيخ نوري الشعلان: «ترى هؤلاء الجالسين حولك ما منهم أحد إلا حاربته وعاداني وواجهته»، فرد نوري قائلاً: «سيفك طويل يا طويل العمر»، فأوضح الملك أن السبب لم يكن السيف فقط قائلاً: «إنما أحللتهم المكانة التي لهم أيام سلطانهم، إنهم بين آل سعود كآل سعود». ويشهد تاريخه بأنه استوزر وزراء خصومه، واستقدم عقول مناوئيه، وحولهم من العداوة إلى الصداقة، ومن العمل ضده إلى العمل معه. يقول رئيس وزراء سورية جميل مردم: «يمتاز الملك عبدالعزيز فوق خصال الشجاعة والكرم والعقل بتبسطه في الحديث وعدم التكلف، والمؤانسة لزائريه، وهو في جزيرة العرب ليس ملكاً، بل رئيس أسرة، ومن عجب شأنه أن هذه الأسرة جمعت خصومه الأولين وأعداءه وأولياءه في ساحته». ويقول الأمير سلمان: «إنه في أثناء كفاح الملك لتوحيد الوطن، وبالتحديد في منطقة القصيم، وبعد أن دخل قصر بريدة عفا عن رجال الحامية وقال: عما قريب سيكون إن شاء الله دخولنا قصر برزان بحائل فهمس أحد الرجال: إلا أن يكون ذلك بالقيد، ويقصد الاستحالة، ولما دخل الملك قصر برزان قال: ها نحن ندخل قصر برزان بلاد قيد». ويقول عبدالله المتعب الرشيد: «إنني سمعت من الملك عبدالعزيز كلاماً يكتب بماء الذهب، قال: إنني لو أصغي أذني إلى حديث الناس عن الناس، أو لو أنني أطاوع الخواطر التي تمر أحياناً على ذهني كنت بين أمرين، إما أنني قتلت العدد الوفير من بني وطني، وإما أن أهل بلادي قاموا علي، ولكنني أسير على نهج أخالف به الحديث الذي ينقله إلي الناقلون، كما أخالف خواطري، وإن كنت على يقين بأن ما ظننته هو الصحيح، فأذهب بعد ذلك وأعامل بالحسنى والمعروف ذلك العدو بالأمس، وقد أثبتت لي التجارب في عملي هذا أنني لن أندم على ذلك، والسبب أن هذا الإنسان لا يعدو أن ينتهج أحد الأمرين، أن يكون كريماً فيملكه معروفي، ويكون لي بمنزلة الابن أو الأخ وتتبدل عداوته الأولى إلى محبة وولاء، وإما يكون لئيماً لا يملك المعروف، وحينئذ يكون قدّم لي هو نفسه على نفسه السلاح الذي يبرر لي أن أضربه به ضربة قاضية، ويكون معروفي هذا هو الشاهد عليه، كما لا يوجد من يرحمه أو يشفع له من الناس». وحكى الريحاني أنه صحب الملك في أسفاره، فسأل المسؤول عن خيمة المؤونة عن جمل من الجمال فقال: هو حرون يا طويل العمر، فطلب منه أن يتركه يرعى، والتفت إليَّ وقال: «العدل عندنا يبدأ بالإبل، فمن لا ينصف بعيره يا حضرة الأستاذ لا ينصف الناس». ولفت نظر أحد الحجاج 1372ه إلى إعلان معلق على باب المجيدي في المسجد النبوي الشريف نصه: «من عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن سعود إلى شعب الجزيرة العربية، على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه فليتقدم إلينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها من طريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا، وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه مهما تكن قيمتها، أو حاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد». «لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم، أو استخلاص حق مهضوم، ألا قد بلغت، اللهم فاشهد». استجار رشيد عالي الكيلاني رئيس الحكومة العراقية بعد أن أصبح طريداً شريداً عن وطنه وناصب الإنكليز العداء بالملك عبدالعزيز، وكان الملك يراقب سير التطورات والأحداث في العراق بين اليقظة والاهتمام، فقبِل استجارته وقال له: «زبنت وخاب طالبك». وأضاف: «يا رشيد أنا أعلم تماماً ما سينجم عن هذا من توتر في العلاقات بيننا وبين العراق ربما يؤدي إلى حرب، ولكن ما كان لي بحال من الأحوال وقد قابلتني والتجأت إلي إلا أن أؤمنك وأن أذود عنك». ثم سلمه إلى أحد الأمراء من أنجاله ضيفاً عليه. صحّت توقعات الملك وطالبت الحكومة العراقية بتسليمه، وحشدت جيشاً على حدود البلاد السعودية، وتدخلت السلطات البريطانية مؤيدة طلب العراق، فقال الملك للسلطات البريطانية: «أعلنوا الحرب إذا شئتم، ويوم أن يفنى جيشي سآخذ رشيد معي وأدخل إلى جوف الصحراء، ولن أسلمه ما دام فيّ عرق ينبض ونفس يتردد». وإزاء هذا الموقف الصلب سكتت إنكلترا عن تهديدها، وتوقف العراق عن المطالبة بتسليم رشيد. عندما اجتمع الناس عند باب الصفا في المسجد الحرام لمبايعة الملك عبدالعزيز، وسمع كلمات الإطراء الزائد، استهجن المبالغة وقال: «اسمع خطباءكم يقولون: هذا إمام عادل، وهذا كذا وكذا، فاعلموا أن ما من رجل مهما بلغ من المنازل العالية يستطيع أن يكون له أثر، وأن يقوم بعمل جيد إذا كان لا يخشى الله، وإني أحذركم من إتباع الشهوات التي فيها خراب الدين والدنيا، وأحثكم على الصراحة والصدق في القول، وعلى ترك الرياء والتملق في الحديث».