قال الرشيد يوماً لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها، فهلم أفاسمك إياها وأخايرك، فاقتسما المغنين، على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره، و كان ابن جامع في حيز الرشيد، وإبراهيم الموصلي في حيز جعفر بن يحيى، وحضر الندماء لمحنة المغنين. وأمر الرشيد ابن جامع فغنى صوتاً أحسن فيه كل الإحسان، وطرب الرشيد غاية الطرب، فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم: هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنه. فقال: لا، والله يا أمير المؤمنين ما أعرفه، وظهر الانكسار فيه، فقال الرشيد لجعفر: هذا واحدٌ. ثم قال لإسماعيل بن جامع: غَنِّ يا إسماعيل، فغنى صوتاً ثانياً أحسن من الأول، فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم، قال: ولا أعرف هذا! فقال: هذان اثنان! غَنِّ يا إسماعيل، فغنى ثالثاً يتقدم الصوتين الأولين ويفضلهما. فلما أتى على آخره قال: هاته يا إبراهيم، قال: ولا أعرف هذا أيضاً. فقال له جعفر: أخزاك الله. وأتم ابن جامع يومه، والرشيد مسرورٌ به، وأجازه بجوائز كثيرة، وخلع عليه خلعاً فاخرة، ولم يزل إبراهيم منخذلاً منكسراً حتى انصرف. ومضى إلى منزله، فلم يستقر فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزَّف - وكان من المغنين المحسنين، وكان أسرع من عُرف في أيامه في أخذ صوت يريد أخذه، وكان الرشيد قد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله، فالزمه بيته وتناساه - فقال إبراهيم للزَّف: إني اخترتك على من هو أحب إليَّ منك لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون! قال: أبلغُ في ذلك محبتك، إن شاء الله تعالى. فأدى إليه الخبر، وقال: أريدُ أن تمضي الساعة إلى ابن جامع، فتُعلمه أنك صرت إليه مهنئاً بما تهيأ له عليَّ وتنقصني وتثلبني وتشمتني، وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها منه، ولك ما تحبه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضا الخليفة إن شاء الله. فمضى واستأذن على ابن جامع فأذن له، فدخل وسلم عليه وقال: جئتك مهنئاً بما بلغني من خبرك، والحمد لله الذي أخزى ابن الجرمقانية على يدك، وكشف الفضل في محلك من صناعتك، قال: وهل بلغك خبَرُنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى على مثلي، قال: ويحك! إنه يقصُرُ عن العيان. قال: أيها الأستاذ، سُرّني بأن أسمعه منْ فيك حتى أرويه عنك، قال: أقم عندي حتى أفعل، قال: السمع والطاعة. فدعا له ابن جامع بالطعام فأكلا ودعا بالشراب، ثم ابتدأ فحدّثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول. فقال له الزَّف: وما هو أيها الأستاذ؟ فغنَّاه ابن جامع إياه، فجعل محمد يصفق وينقر ويشرب وابن جامع مجتهدٌ في شأنه حتى أخذه عنه، ثم سأله عن الصوت الثاني فغنَّاه إياه. وفعل مثل ما فعله في الصوت الأول، ثم كذلك في الصوت الثالث. فلما أخذ الأصوات الثلاثة وأحكمها، قال له: يا أستاذ، قد بلغتُ ما أحبُّ فتأذن لي في الانصراف؟ قال: إذا شئت. فانصرف محمدٌ من وجهه إلى إبراهيم، فلما طلع من باب داره قال له: ما وراءك؟ قال: كلُّ ما تحب، ادُعُ لي بعُود، فدعا له به، فضرب وغنَّاه الأصوات. قال إبراهيم: وأبيك هي بصُوَرها وأعيانها، رددها عليَّ الآن، فلم يزل يرددها حتى صحت لإبراهيم، وانصرف الزَّفُّ إلى منزله. وغدا إبراهيم إلى الرشيد فلما دعا بالمغنين دخل فيهم، فلما بَصُرَ به قال له: أو قد حضرت! أما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهراً بسبب ما لقيت من ابن جامع! قال: ولم ذلك يا أمير المؤمنين؟ جعلني الله فداك! والله لئن أذنت لي أن أقول لأقولن، قال: وما عساك أن تقول! قل. فقال: إنه ليس ينبغي لي ولا لغيري أن يراك نشيطاً لشيء، فيعارضك، ولا أن تكون متعصباً لحيز وجنبة فيغالبك، وإلا فما في الأرض صوتٌ لا أعرفه. قال: دع ذا عنك، قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا، فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول فهاته اليوم، فليس ههنا عصبية ولا تمييز. فاندفع فأمرَّ الأصوات كلها، وابن جامع مُصْغ يسمع منه، حتى أتى على آخرها، فاندفع ابن جامع فخلف بالإيمان المحرجة أنه ما عرفها قط ولا سمعها، ولا هي إلا من صنعته، ولم تخرج إلى أحد غيره، فقال له: ويحك! فما أحدثت بعدي! قال: ما أحدثتُ شيئاً. فقال: يا إبراهيم، بحياتي، اصدقني. فقال: وحياتك لأصدقنك، رميته بحجره، فبعثت إليه بمحمد الزَّف وضمنت له ضمانات، أولها رضاك عنه، فمضى فاحتال لي عليه حتى أخذها عنه ونقلتها حتى سقط الآن اللوم عني بإقراره، لأنه ليس عليَّ أن أعرف ما صنعه هو ولم يخرجه إلى الناس، وهذا بابٌ من الغيب، وإنما يلزمني ألا يعرف هو شيئاً من غناء الأوائل وأجهله أنا، وإلا فلو لزمني أن أروي صنعته للزمه أن يروي صنعتي ولزم كل واحد منا لسائر طبقته ونظرائه مثل ذلك، فمن قصر كان مذموماً ساقطاً. فقال له الرشيد: صدقت يا إبراهيم ونضحت عن نفسك وقمت بحجتك. ثم أقبل على ابن جامع، فقال له: يا إسماعيل، أتيت أتيت! دُهيت دُهيت! أبطل عليك الموصلي ما فعلته به أمس، وانتصف اليوم منك، ثم دعا بالزَّف فرضي عنه.