من المواقف اللافتة التي تضمنها كتاب«إنسانية ملك»، يكشف مؤلفه الدكتور عبدالعزيز الثنيان، كيف كان مؤسس الدولة السعودية الحالية الملك عبدالعزيز يمارس مهارته المفضلة في تحويل خصومه وأعدائه، إلى مكرمين أحبة، ووزراء أعزة. وفي هذا المضمار يوثق الباحث أحد المواقف المؤثرة التي لم ترو من قبل، إذ جاءت من مذكرات أحد مسيحيي العرب المقيمين في الولاياتالمتحدة، وهو الذي ظل مستمسكاً بمذكرات جده الكاهن الخوري نقولا الذي التقى الملك عبدالعزيز في مصر في وفد من نصارى القدس أهدوه رمزاً للمدينة المقدسة، فيما لم يترددوا في إهداء أخيه الملك فارق «علبة سجائر أنيقة» في المجلس نفسه! كما سيروي الثنيان بالتفصيل، قصة رئيس وزراء العراق السابق رشيد الكيلاني، الذي فزع الملك عبدالعزيز لمقدمه من دون سابق علم، ولكنه لم يملك بعد الصدمة الأولى إلا قول «خاب طالبك»، متحملاً بذلك أحد أصعب المواقف في أيام دولته الفتية، إذ أحوجته تلك المقولة إلى مواجهة صارمة مع «الإنكليز» أوشكت أن تنقلب إلى «عسكرية»! لكن المثير هنا إضافة إلى الموقف الملفت، أن الباحث يستدعي بالموقف ذاك، حال الزعيم الليبي المطارد معمر القذافي، وكأنه يلمح إلى أنه لو عرف الطريق واستجار أبناء الملك عبدالعزيز لأجاروه! يقول الكاهن الخوري نقولا، في مذكراته التي خص بها حفيده موسى الثنيان، وتنشر لأول مرة: «في أوائل كانون الثاني عام 1946، قام الملك عبدالعزيز آل سعود عاهل الجزيرة بزيارة رسمية للقُطْر المصري وحلَّ ضيفاً على الفاروق ملك مصر، فتهافت الناس من جميع الأقطار العربية للسلام عليه. ورأت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الأرثوذكسي العربي الثاني أن تشترك هي أيضاً بالتسليم على جلالته بالنيابة عن الشعب الأرثوذكسي العربي في فلسطين وشرق الأردن، وكنت أنا أمثل الكهنة بصورة دائمة في هذه اللجنة، فاتفق رأيها على انتدابي أنا وعيسى البندك ويعقوب جميعان وحنَّا سلامة وأنطوان عطاالله لهذه المهمة، وفي اللحظة الأخيرة استعفى الإثنان الأخيران من هذه المهمة. فذهبت إلى القاهرة أنا وعيسى البندك ويعقوب جميعان فقط، وقد حاول إميل الغوري أن ينضم إلينا في القاهرة فرفضنا. وكنا نحمل معنا هديتين إحداهما للملك عبدالعزيز وهي قطعة من الصدف منقوش عليها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة بينهما نخلة وفوقها سيفان معقوفان والراية السعودية. والأخرى لفاروق وهي: سبحة من الصدف وعلبة سجائر من الصدف أيضاً. فلما وصلنا القاهرة زرنا قصر عابدين وقيدنا أسماءنا في سجل التشريفات، وقدمنا هدية الفاروق إلى كبير الأمناء، فرفعها بدوره إلى جلالته. فأرسل لنا مكتوبَ شُكْرٍ معنوناً باسمي بصفتي رئيس الوفد. وبعد ذلك اتصلت ب الشيخ عبدالعزيز الكحيمي قنصل المملكة العربية السعودية في القدس، وطلبنا إليه أن يأخذ لنا موعداً لزيارة ملكية، فرجع إلينا يقول: إن المقابلة ستكون في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم 16/1/1946. وفي الوقت المعين وبينما كنا نتأهب لمغادرة الفندق، إذا بسيارة الملك عبدالعزيز تقف على باب الفندق يرفرف على مقدمها العلم السعودي، فدهش الناس لوقوف هذه السيارة في باب الفندق، وأخذوا يتطلعون ليروا ماذا تريد بوقوفها في هذا المكان، ومن تحمل فيها، وإذا بالشيخ عبدالعزيز المذكور ينزل منها ويتقدم إلينا فيدعونا إلى ركوبها قائلاً: إن الملك أرسلها لكم لتأتوا لزيارته فيها. وكانت هذه مفاجأة لنا، فركبنا السيارة متوجهين إلى قصر الزعفران بين استغراب الناس ودهشتهم. كان قصر الزعفران وساحته الواسعة والطريق المؤدي إليه، كلها مزدانة بالأنوار الكهربائية المختلفة الألوان والأشكال، ترفرف في كل مكان الأعلام المصرية والسعودية، وكان القصر يعجُ بوفود البلاد التي جاءت للتسليم عليه، فلما نزلت من السيارة الملكية عند مدخل القصر الداخلي، أخذت لنا ثلة من البوليس المصري وأخرى من الحرس السعودي التحية الرسمية، وقابلنا وزير الخارجية السعودي، ومدير التشريفات، وبعض أفراد الحاشية، فسلموا علينا وقادونا إلى غرفة الانتظار، إلى أن يحين الوقت المعيّن. وكان من جملة الموجودين في تلك الغرفة جمال الحسيني، الذي مال عليَّ وترجاني أن أنتهز هذه الفرصة فأطلب من جلالته السعي لإعادة المفتي إلى فلسطين (يقصد الشيخ أمين الحسيني). فقلت له: لم أحضر من فلسطين يا أستاذ إلا لهذه الغاية فتوكل على الله. وكان قبلنا في الترتيب وفد لبنان، وكان مؤلفاً من نحو ثلاثين شخصاً بينهم المطارنة والأرشمندريتية والعلماء المسلمون ومشايخ الدروز، فدخلوا عليه وفي مقدمهم سامي بك الخوري شقيق رئيس الجمهورية والوزير اللبناني المفوض في القاهرة، فلم يمكثوا بين يديه سوى ست دقائق، وظلوا وقوفاً فيها فلم يجلسوا ولم يشربوا القهوة. هدية أرهب الملك معناها! وبعد خروجهم جاء دورنا فدخلنا عليه الصالون الملكي، ولم يكن عنده سوى وزير خارجيته الشيخ يوسف ياسين وعبدالعزيز الكحيمي، وكانا واقفين من بعيد. فلما دخلنا على جلالته هبَّ واقفاً وتقدم خطوتين لاستقبالنا، فتقدمنا نحن وسلمنا عليه وهو يرحب بنا وأمرنا بالجلوس مشيراً إلى كرسي بجانبه لأجلس أنا عليه، إلا أني تهيباً وتأدباً تركت ذلك الكرسي وأردت أن أجلس على الكرسي الثاني، فأخذني من يدي وأجلسني على الكرسي الذي على يمينه. وكانت أمامي طاولة صغيرة لا يوجد عليها شيء، وكانت الهدية معي موضوعة في صندوق صغير من الخشب المطعَّم بالصدف وملفوفة بالعلم السعودي الأخضر، فوضعتها أمامي على الطاولة وأخذت في كشف الغطاء عنها وأخرجتها من الصندوق وقدمتها لجلالته وأنا أقول: يا صاحب الجلالة: إن هذه المقابلة تذكرنا بتلك المقابلة التي خرج فيها قساوسة بيت المقدس العربي، لاستقبال الخليفة العظيم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين جاء بيت المقدس فاتحاً، وسلموه مفاتيح تلك المدينة. ونحن نصارى العرب قد جئنا من فلسطين خصيصاً لنقدّم لجلالتكم ولاءنا وإخلاصنا، وقد حملنا لجلالتكم هذه الهدية المتواضعة، والتي وإن كانت لا تليق أن تقدم لملك عظيم نظيركم، بَيْدَ أنها تحمل من المعاني والرموز ما كانت تحمله تلك المفاتيح في ذلك العهد. وكانت الهدية جاهزة فقدمتها إلى جلالته، فتناولها مني شاكراً وأخذ يتفرّس فيها على نور الكهرباء، وينظر إليَّ كأنه يسألني مستفسراً يريد زيادة إيضاح، فتابعت الكلام مشيراً إلى الصورتين المنقوشتين عليها وقلت: ومعنى ذلك – يا صاحب الجلالة – أن المسلمين والمسيحيين في فلسطين يضعون مقدساتهم وديعة وأمانة تحت سيفكم البتّار.فانتفض ونظر إليَّ يقول: ومن أنا حتى أكون حامي مقدسات المسلمين والمسيحيين في فلسطين؟! قلت: أنت ملك العرب وأبو العرب وسيد العرب، وإن كان العرب لا يلتجئون إليكم في محنتهم فإلى من يلجئون؟ قال: استغفر الله.. إني لست ملك العرب ولا أبو العرب ولا سيد العرب، إنما أنا أخو العرب وخادم العرب، بارك الله فيكم وأكثر من أمثالكم.. فوالله إن كان المسلمين يستحقون مني شكراً واحداً فأنتم تستحقون شكرين. قلت: إن فلسطين الذبيحة تستصرخكم وتستغيث بجلالتكم فهل لكم أن تُسْمعُوا أهلها ما يطمئنهم على مستقبل بلادهم ومقدساتهم! قال: إني أنا وأولادي وكل ما أملك فدى فلسطين وأهلها، فطمئن إخوانك عرب فلسطين المسيحيين والمسلمين أن فلسطين عربية وستبقى عربية لأهلها العرب إلى ما شاء الله بإذنه تعالى. وكانت القهوة العربية قد حضرت، فتكلم عيسى البندك كلمة تناسب المقام، وشربنا القهوة واستأذنا بالانصراف، فلم يسمح لنا بل قال: إنه لَيَلذُّ لي أن أجتمع إليكم في هذه الليلة وأسمع منكم ما تهمُّ معرفته من أخبار فلسطين، فإن فلسطين هي قلب العروبة وهي شغلنا الشاغل في هذه الأيام فأرجو أن ترفعوا التكليف ونحوّل هذه الجلسة إلى جلسة عائلية، أب يتكلم مع أولاده، فخذوا حريتكم في الحديث وليكن حديثاً صريحاً وبسيطاً. وهنا دار الحديث حول قضية فلسطين ومواقف إنكلترا وأمريكا من هذه القضية. وكان الأمير عبدالله بن الحسين قد نودي به ملكاً على الأردن في الليلة الفائتة، فامتد بنا الحديث إلى هذه الجهة أيضاً. وقد استأذنا بالانصراف ثلاث مرات في هذه الأثناء بالنظر للوفود العديدة التي كانت تنتظر دورها في الخارج، إلا أنه كان ملتذاً بالحديث فلم يسمح لنا بالانصراف حتى دَقَّت الساعة التاسعة إلا ربعاً، فكانت مدة إقامتنا لدن جلالته، ثلاثة أرباع الساعة. كاهن همه إعادة مفتي المسلمين! ولما أذن لنا بالانصراف وقمنا لنودعه، نهض واقفاً وهمَّ بمرافقتنا بضع خطوات.. فأمسكت بيده ومنعته عن التحرك وقبلت يده وأنا أقول: إني بالنيابة عن إخواني عرب فلسطين عموماً المسلمين منهم والمسيحيين، أقبل هذه اليد الكريمة وبلسانهم جميعاً أتقدم إلى جلالتكم برجاء أرجو أن لا تردوني خائباً فيه. قال: قل إن شاء الله فكل طلب لأهل فلسطين لدينا لابد من تلبيته مهما كان نوعه. قلت: إن الرجاء الملح الذي يتقدم به أهل فلسطين إلى جلالتكم في الوقت الحاضر هو: السعي لإرجاع سماحة المفتي سيد البلاد وزعيمها إليها، فإن البلاد بدونه جسد بلا روح. ويظهر أنه لم يكن منتظراً مني هذا الطلب، فضغط على يدي بكلتا يديه وأمارات التعجب والاستغراب بادية على محيّاه، وتفرس في وجهي باسماً وقال: بورك فيك أيها الشيخ الجليل.. بارك الله في هذه الوطنية الرائعة والإخلاص المتناهي، إن شعباً فيه مثل هذه الروح لهو جدير بأن يُلَبَّى له كل مطلب. فانقل إلى إخوانك عرب فلسطين المسيحيين والمسلمين أحرّ التحيات وأخلص التمنيات وقل لهم بلساني إن كل مطلب لهم سَيُلَبَّى بإذن الله. فقبلت يده مرة أخرى وشكرته حارَّ الشكر على ما لقيناه من جلالته من رعاية وعطف ولطف وانصرفنا وهو يدعونا بالتوفيق. وقد أمر وزير خارجيته أن يشيعنا حتى باب القصر وأمر الشيخ عبدالعزيز الكحيمي أن يعيدنا بالسيارة الملكية إلى الفندق. فخرجنا من عنده والجماهير ينظرون إلينا بالدهشة والاستغراب على الحفاوة التي قوبلنا وشُيعنا بها، خصوصاً لطول المدة التي مكثناها عنده، ونقله إيانا بسيارته الخاصة في المجيء والذهاب. وكان جمهور كبير من أهل فلسطين ومصر وشرق الأردن والعراق وسائر البلاد العربية جالسين على مدخل الفندق، ينتظرون عودتنا من هذه الزيارة، بعد أن رأوا السيارة الملكية تنقلنا إلى قصر الزعفران، وما أشد ما كانت دهشتهم عندما رأونا عائدين بالسيارة إياها على الفندق. فما أن ترجلنا من السيارة ونزل الشيخ عبدالعزيز فودعنا وعاد بها إلى مولاه، حتى التفَّ حولنا ذلك الجمهور وبينهم ممثلوا الجرائد العربية والإفرنجية، ومندوبو دور الإذاعات والشركات التلغرافية. ليسمعوا ما دار بيننا وبين عاهل الجزيرة من حديث. فتولّى الأستاذ عيسى البندك شرح التفاصيل، بينما كانت أقلام المراسلين تتابع الشرح بالاختزال وجمهور المستمعين يستفسرون عن كل نقطة بنقطتها، وعن كل عبارة بعبارتها. وقد انهال علينا الجميع مهنئين ومستغربين من هذه الالتفاتة السامية التي لم يحظ بها وفدٌ من الوفود التي قدمت من أقصى البلاد العربية للتسليم على جلالته. وقد صدرت الجرائد في اليوم التالي وفيها تفاصيل هذه الزيارة التاريخية منشورة على أول صفحة من صفحاتها ومعنونة بأحرف بارزة، وأذاعت أربع محطات لاسلكية هذه التفاصيل وهي: محطات مصر وفلسطين والشرق الأدنى ولندن. وقد اتصل بي مندوب دار الإذاعة الفلسطينية في تلك الليلة وأبلغني أن دار الإذاعة في القدس ستذيع تفاصيل هذه الزيارة في اليوم التالي. ويقول هذا الشاهد: ومما يجدر تسجيله بهذه المناسبة أن أحد أفراد حاشية الملك ابن سعود – ويظنه وزير خارجيته – قد كتب للمفتي في باريس يخبره بتفاصيل هذه الزيارة ومن جملة قوله له: إن أحداً من الناس لم يستطع أن يؤثر على جلالة ابن سعود ويحمله على البكاء، إلا ذلك الشيخ الوقور: الخوري نقولا. خاب طالبك وبين أحد المواقف التي استدعت من الراحل حلماً وصبراً وموقفاً صعباً، ما رواه الباحث عن المصادر، من أن الملك عبدالعزيز وهو يستعد للسفر إلى الطائف بعد شهر رمضان من عام 1364ه/1945 وصلته برقية من مركز حدود المملكة مع سوريا وفيها أنه وصلهم ثلاثة أشخاص معهم حاج يرغب مقابلة الملك عبدالعزيز لأمر مهم وأذن الملك للوفد بالقدوم إلى الرياض ووصل الوفد والتقى بهم الملك عبدالعزيز وتحدثوا معه ثم قال أحدهم: أنا رشيد عالي الكيلاني، الرجل الذي تبحث عنه بريطانيا وتبحث عنه حكومة العراق، جئتك بعد أن ضاقت عليّ الأرض بما رحبت. جئت أطلب نجدتك وأنشد حمايتك. وقبل أن نعرف رد الملك عبدالعزيز. ما هي حكاية هذا الرجل؟ وهل يُجير الملك عبدالعزيز شخصاً يُلاحقه الإنكليز؟ لقد كان الضيف اللاجئ رئيساً للحكومة العراقية لفترات متعددة، وكان عزيزاً في قومه لكنها الأقدار، ففي خلال الحرب العالمية الثانية 1941 قام أربعة من ضباط الجيش العراقي بالاتفاق مع الكيلاني وشكلوا حكومة جديدة وأبعدوا الوصي على العرش العراقي الأمير عبدالإله بن علي، واختاروا وصياً جديداً هو الشريف شرف وكان الإنكليز يريدون الكيلاني طوع إرادتهم فطالبوه أن يقطع العلاقات مع إيطاليا فتمنع ورغبوا أن يقاوم ألمانيا فتأبى وأعلن أنه يحترم المعاهدة البريطانية العراقية لكنه يقف في الحياد فأبى الانكليز وخاصموه وصارت بينهم قطيعة، ثم تطور الأمر وحدث الصدام المسلح بين القوات الإنكليزية والجيش العراقي في داخل الأرضي العراقية، واشتد الصدام العسكري بين الطرفين وانتهى الأمر بهزيمة الجيش العراقي وسقوط حكومة الكيلاني وهروبه من العراق وعودة الوصي عبدالإله وممارسته الحكم وصار الإنكليز وحكومة العراق يلاحقون الكيلاني ويبحثون عنه فقد حكموا عليه بالإعدام وانتهى به الأمر إلا أن وصل إلى ألمانيا ولكن بخسارة ألمانيا للحرب واحتلال الحلفاء لأراضيها طفق الكيلاني يبحث عن مَنْ يؤويه، فأين يا ترى يذهب ولمن يلجأ؟ وانتهى به الأمر أن تحايل للوصول إلى الملك عبدالعزيز واستجار به، إن الكيلاني يعلم أن الملك عبدالعزيز رجل مواقف ووارث مجد العروبة والإسلام ولهذا استجار به. نصيحة قبل اللجوء لقد كان الملك عبدالعزيز يراقب سير التطورات والأحداث في العراق بعين اليقظة والاهتمام، فالعراق جار مهم ولم يكن الملك راضياً عن تطور الخلاف بين الكيلاني وبريطانيا، ولهذا عندما أرسل الكيلاني الوزير العراقي ناجي السويدي إلى الرياض وقابل الملك عبدالعزيز وطلب المساعدة العسكرية ضد بريطانيا، نصحه بوجوب التفاهم مع الإنكليز ثم قال للوزير العراقي: «يا ولدي إن مجاورة الأسد الشبعان خير من مجاورة النسر الجوعان». إن الملك عبدالعزيز عاقل يزن الأمور فلا يتهور وإنما يدفع الشر بالتي هي أحسن، ويدرك حساسية الموقف وخطورة القرار. يسأل الكاتب بعض كبار السن في الرياض ممن عاصروا تلك الفترة ما هو حديث المجتمع السعودي حينما سمعوا بوصول الكيلاني ولجوئه للملك عبدالعزيز؟. يقول الشيخ ثنيان الفهد عندما سألته ماذا تعرف عن الأمر قال: سمعنا في الرياض بوصول الرجل وأنه كان مُخفياً اسمه لولا أن رفاقه في السيارة التي أقلته أحسّوا من لهجته أنه عراقي (...) وسمعنا أنه حينما قابل الملك عبدالعزيز صار لدى الملك رد فعل إذ تفاجأ به ولهذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم وَجَمَ لحظات وقال: زَبنتَ وخاب طالبك. يترك أبناءه وديعة عند غريمه! وفي مواقف كهذه لا يفوت الدكتور الثنيان التعليق على ما يعتبره ذخراً وطنياً، ومصدر فخر لكل السعوديين، الذي قال إنهم «يفخرون بتاريخهم الوطني ومواقف ملوكهم فلا ينتقمون ولا يشمتون. يختلفون مع الأعزة لكنهم يُبقونهم أعزة، ويشتد خلافهم مع بعض القادة لكنهم يتسامحون»، غير أنه لا يلقي الكلام مرسلاً، فيستفيض في الشواهد، فالملك عبدالله بن الحسين قائد معركة «تربة» ( كانت معركة فاصلة قرب الطائف، مكن الانتصار فيها الملك عبد العزيز من فتح كل الحجاز) ومنشئ إمارة شرق الأردن التي سميت فيما بعد «بالمملكة الأردنية الهاشمية» كانت له مواقف حادة مع الملك عبدالعزيز وخلاف ونزاع بلغ أشده في عدة مواقف. وعندما ازداد الملك عبدالعزيز قوة ومنعة واستقر الملك السعودي جاءه عدو الأمس زائراً للرياض وقال الملك عبدالعزيز مثلما يروي الزركلي: إنني شديد الاغتباط بزيارة أخي صاحب الجلالة الملك عبدالله، وإني أحسب هذا اليوم الذي شرّف فيه مدينة الرياض، يوماً سعيداً مخلداً، وأعتبره عهداً مباركاً في تاريخ العرب الحديث» وصرح عبدالله فيما أدلى به للصحافة في الرياض، بقوله: «لقد سرني أن أرى الرياض ويحصل لي شرف التعرف بجلالة الملك عبدالعزيز شخصياً وإن كنت أعرفه عن بعد ..». وكانت نهاية تلك الخصومة أن يقول الملك الأردني عدو الأمس للملك عبدالعزيز عند مغادرته الرياض وقبل مقتله بشهور: أوصيك يا عبدالعزيز بأبنائي خيراً، هم وديعتي لديك يا طويل العمر!. ولم يهمل الملك عبدالعزيز أمر الوديعة والرعاية لأبنائه بعد مقتله». يضيف الثنيان: الملك عبدالعزيز ومن بعده أبناؤه اليوم لا يحملون حقداً، فها هو القذافي يتمادى في شتيمة المملكة وتبلغ جرأته أن يتآمر لقتل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وحين أفل نجمه ونشب في خلاف مع شعبه لم تهتبل المملكة الفرصة، فتأمر وسائل الإعلام بالشماتة والسخرية، بل تناست مواقفه وكانت كبيرة في مواقفها كما كان الأب المؤسس رحمه الله. ونعود للكيلاني، إذ يقول الرواة: عندما عرف الملك عبدالعزيز الكيلاني قال: يا رشيد أنا أعلم تماماً ما سينجم عن هذا من توتر في العلاقات بيننا وبين العراق، قد يؤدي إلى حرب، ولكن ما كان لي بحال من الأحوال، وقد قابلتني والتجأت إلي، إلا أن أؤمنك، وأن أذود عنك. ثم سلمه إلى أحد الأمراء من أنجاله ضيفاً عليه. وصح ما توقعه الملك عبدالعزيز، فما كادت تذاع قصة لجوء رشيد عالي، حتى طالبت الحكومة العراقية بتسليمه، وحشدت جيشاً على حدود البلاد السعودية وتدخلت السلطات البريطانية مؤيدة طلب العراق. فقال الملك للسلطات البريطانية: أعلنوا الحرب إذا شئتم، ويوم أن يفنى جيشي سآخذ رشيد معي وأدخل إلى جوف الصحراء ولن أسلمه ما دام فيّ عرق ينبض ونفس يتردد. وإزاء هذا الموقف الصلب سكتت انكلترا عن تهديدها وتوقف العراق عن المطالبة بتسليم رشيد. الشيوخ ليسوا «أبخص»... وهذه الوصفة السحرية ل«فساد الحكم»!