مثبّتون ملتصقون منغمسون متوحدون معها وبها. ساعات اليقظة هي بطلتها، وفي ساعات النوم هي بطلة أحلامهم. فهي صاخبة ثرية عامرة متجددة لا تتوقف إلا في تلك السويعات التي ينقطع فيها التيار أو ينهض أحدهم ليلبي نداء الطبيعة أو يحظى بدقائق من الراحة ليعود مستنفراً مستعجلاً إليها. لم يعودوا يلعبون، أو يمرحون، أو يطلبون اللجوء إلى شقة الجيران بحثاً عن لعبة جماعية، أو «إستغماية» ساعة الظهيرة. زادت الأوزان واكتنزت الكروش وتسللت النظارات الطبية إلى الوجوه. لكن الأهم من ذلك أن المخزون المعرفي لأحباب الله في النصف الأول من شهر رمضان زاد وازدهر وتنوّع وتفرّع، وبات يحوي لائحة من الخبرات الحياتية والكنوز التعليمية ومحتوى المسلسلات الرمضانية لم تكن على البال أو الخاطر. المخاطرة غير المحسوبة التي أقدمت عليها مدام نرمين (34 سنة) بإغلاق جهاز التلفزيون على حين غرة بينما كان إبناها ياسين (10 سنوات) وسليم (8 سنوات) يتابعان بتركيز متناه وشغف متصاعد قيام البطل بلف سيجارة تحوي مخدراً بحنكة شديدة على أنغام موسيقى تشويقية وحوله أدخنة كثيفة نجمت عنها معارك كلامية وجدالات أسرية واتفاقات وقتية. اعترض الصغيران بشدة، وردت الأم بأن المشاهد التي يغرقان فيها غير مناسبة لسنهما، وأن مشاهدة التلفزيون ليست «عمال على بطال»، بل يجب أن يكون لها ضابط وتخضع لرابط. عصبية الأم وآثار الصدمة البادية على وجهها تنبئان بأنها ليست من المرابطات أمام الشاشة الرمضانية حيث المسلسلات الدرامية والجرعات «الثفافية» المخترقة للبيوت والعابرة للقيود. وحين أراد الصغير سليم أن «يكحلها» «عماها» تماماً. «يا ماما لف السيجارة ولا حاجة مقارنة بشمّ الهيروين وتعاطي الكوكايين في مسلسل كذا، أو بعلاقة فلانة الحرام بفلان في مسلسل كذا، ولا الشتائم الجديدة التي يرددها الممثل الكوميدي في مسلسل كذا. كبري مخك»! لكن «ماما» لم تكبر مخها، بل صغّرته وحددته وأعادت إطلاق الصاروخ المدوّي صوب الصغيرين. حاولت إخفاء شعور الفزع وإحساس الرعب لما تسمعه من فم الصغير الذي اكتسب معارف خاصة بتعاطي المخدرات، والعلاقات غير الشرعية، وإضافات ستائمية حصيلة الأيام التي مرت من الشهر الكريم أمام شاشته الدرامية، وقالت بحسم شديد: «إذن لا مشاهدة إلا لما أقرره من مسلسلات». لكن ما لا تعرفه ماما أن الغالبية المطلقة من عشرات المسلسلات الدرامية الرمضانية خارج إطار السيطرة. تمنعها من الشاشة الفضية، فتأيتك عبر شاشة اللاب توب، وتغلق على اللاب توب باب الغرفة، فتداهمك من خلال شاشة الأهل والأقارب حيث دعوات الإفطار والسحور الرمضانية المتتالية، تتحجج بضرورة الانصراف عقب الأكل مباشرة لدواعي العمل تفاجئك عبر الهاتف المحمول، وإن نجحت الأسرة في تحديد ساعات المشاهدة والسيطرة على نوعية المتابعة والبحث والتقصي حول محتوى هذا المسلسل أو ذاك، فإن ساعات اليوم ال 24 ليست كلها خاضعة لمتابعة الأم وتدقيق الأب. وفي هذه الحالة تحديداً، فقد حقن الصغيران دماء المعركة، وأذعنا لأصوات الممانعة وأغلقا جهاز التلفزيون وتظاهرا بالندم وادعيا التوبة مطمئنين بعضهما بعضاً بأن غداً لناظره قريب. فغداً تتوجه ماما إلى العمل صباحاً، وكذلك بابا، ولا يبقى في البيت سواهما والتلفزيون حيث المسلسلات ذاتها تذاع تباعاً بالزخم وبالتواتر المعهودين. وقد أجرى المجلس القومي للطفولة والأمومة حصراً مبدئياً لما تعرضه البرامج الرمضانية من وجبة ممتدة على مدار ساعات الليل والنهار من دراما وبرامج عنف (مقالب سابقاً) يتثبت أمامها ملايين الأطفال الملازمين للبيوت بحكم عطلة الصيف وحرارة تموز (يوليو) القائظة، وضيق ذات اليد التي تمنع المصايف وتقلّص فرص الخروج. رصد المجلس مئات المشاهد التي اعتبرها خبراؤه «كارثة ثقافية وأخلاقية» لملايين المشاهدين من الأطفال، منها على سبيل المثال: تدخين بطلة لسيجارة «حشيش» معلنة بإنها «فتاة حرة»، تعدد مشاهد تعاطي أنواع مختلفة من المخدرات من قبل صبية وشباب باعتبارها بوابة العبور للرجولة، منظومة مخاطبة الزوجة، والابنة والحفيدة، وحتى الصديقة من قبل الأبطال الذكور بأساليب شتم وسب ومهانة، وكأنها شكل من أشكال التدليل أو أسلوب من أساليب النداء، استخدام الصغار الألعاب النارية التي يعاني المجتمع المصري منها الأمرين منذ ثورة يناير وكأنها وسيلة عادية من وسائل اللعب. أما التدخين فقد باتت السيجارة والأدخنة المنبعثة من أفواه الأبطال والبطلات بسبب ومن دونه سمة من سمات مسلسلات الشهر الكريم. وحيث إن الشهر لم ينته بعد، وكذلك المسلسلات، وكذلك محاولات آباء وأمهات التحكّم في ساعات المشاهدة ونوعيتها (وهو ما يبوء غالباً بالفشل لأسباب لوجستية بحتة)، فإن اختصاصية الصحة النفسية الدكتورة نجلاء شوقي تنبّه إلى أن الأطفال كثيراً ما يتوحّدون مع أبطال الأعمال الدرامية التي يشاهدونها، فلا يضعون خطوطاً فارقة بين الواقع والدراما، أو بين الخير والشر، أو الصح والخطأ. فطريقة الكلام، وارتداء الملابس، والأفكار السائدة، والأعمال، والمشي وغيرها التي يتابعها الصغار على الشاشة بصفة مستمرة، تنعكس في شكل أو آخر على حياتهم اليومية. وتوضح «هو ليس قراراً يتخذه الصغار، بل تصرفات تتسلل من دون وعي منهم إلى حياتهم اليومية. وقد يتعجّب الأهل حين يفاجأون بالصغير وقد تغيرت طريقة كلامه، أو أضيفت كلمات عجيبة إلى مفرداته، أو تغّير ذوقه في اختيار ملابسه، وهنا عليهم بالبحث في ما يتابعه الصغير». وتعترف شوقي بالصعوبة البالغة التي تواجهها الأسر حالياً في السيطرة أو مراقبة ما يتابعه الصغار، وذلك لتعدد المصادر، وتنوعها، وعدم تواجد الأهل في البيت على مدار اليوم، لا سيما في العطلة الصيفية، ما يجعل الأمور خارج السيطرة. ولا يحمّل المجلس القومي للطفولة والأمومة أياً من أطراف الأعمال الفنية مسؤولية ما يقترفه الأطفال من جرائم أو سلوكات سلبية. لكنه يشير إلى أن «هذه الأعمال بذور دمار وانفلات تغرس فى شخصية الأطفال»، لا سيما «أننا أمام جيل من الأطفال يعرف كل شيء، وإذا كانت معرفته مبنية على ما يستقيه من البيئة المحيطة به أو من خلال رفاق السوء فلا داعي ليقوم الإعلام بثقل هذه المعرفة وإضفاء الشرعية عليها». من هنا الحديث عن ضرورة تفعيل «السيطرة المجتمعية الوثيقة الصلة بالمسؤولية المجتمعية الأخلاقية الجمعية، حيث يشعر كاتب القصة والسيناريو والممثل والمخرج والمنتج، وإدارة القناة، والمعلنون، وغيرهم بمسؤوليتهم تجاه أجيال بأكلمها، جنباً إلى جنب مع دور الأسرة حيث التوعية والتواصل مع الصغار، والمدرسة ومناهجها التعليمية، والمعلّم». إنها حلقة متصلة، وعلى الجميع الاضطلاع بدوره.