استعادت بيروت شيئاً من ألق وأرق ستينات وسبعينات القرن الماضي. غامرت ممثلتان ومخرجة (لينا أبيض، وعايدة صبرا وجوليا قصار) بالعودة 40 سنة إلى الوراء وقدمن مسرحية «الديكتاتور» للراحل عصام محفوظ. لم أشاهد المسرحية. لكن ما كتب عنها كاف للقول إنها تحية أو التحية إلى عصام وإلى الراحل الآخر ميشال نبعة الذي قدمها مع أنطوان كرباج للمرة الأولى عام 1969. تلخص «الديكتاتور» ويلخص عصام محفوظ، ومسرحيو تلك الحقبة الخيبة من الأنظمة السياسية التي كانت قائمة، خصوصاً بعد هزيمة عام 1967، وظهور الأنظمة الديكتاتورية بوجهها الحقيقي، على رغم أنها لا تطرق إلى ذاك الواقع مباشرة ولم تكن رد فعل على الهزيمة. هي، بعبثيتها، تعبر عن واقع الإنسان العربي الممزق، الإنسان الضائع بين تاريخه وحاضره، من دون أمل بالمستقبل. وليس أفضل من العبث لتجسيد ذلك، ألم يكن هذا ما لجأ إليه صموئيل بيكيت ويوجين يونيسكو؟ أليس هذا ما أراد تقديمه هارولد بينتر؟ «الديكتاتور» ثورة في المسرح، وعلى المسرح. ثورة في اللغة والموقف والتحليل والأداء ومحاولة رائدة للتواصل مع الآخر. كتب عصام محفوظ في بيانه المسرحي (مانيفيستو) أنه «ضدّ الاتفاق، ضد التقليدية، ضدّ التفاهة، ضد الكسل، ضد اللامسرح.... وضد الكلمة الشعرية في المسرح، ضدّ الحذلقة الذهنيّة، ضدّ البلاغة، ضد الخطابة، ضد الغنائيّة، ضد الفكر، ضدّ كلّ ما يقتل الحياة في اللغة المسرحيّة». في اللغة اعتمد خطاباً بين الفصحى والعامية. خلص المسرح من لغة الأدب، معتمداً لغة الحياة. خلصه من البلاغة والخطابة، من المباشرة في السياسة، من ادعاء المعرفة الكلية، من الفلسفة. كتب نصاً مسرحياً درامياً جاهزاً للتجسيد على الخشبة. أي أنه لم يكتب قصة ويحولها إلى «تمثيلية». وليس أجدر من اللعب والعبث لبلوغ ما أراد، بالتعاون مع مثقف كبير مثل ميشال نبعة، وممثل قدير مثل أنطوان كرباج. كل ما كان عصام محفوظ ثائراً ضده في الستينات والسبعينات، عاد ليطغى على الحياة السياسية والثقافية في العالم العربي، خصوصاً في بيروت التي كانت في تلك المرحلة تحتضن اليسار العلماني الديموقراطي وكانت المعبر عنه شعراً ومسرحاً ورواية، يأتيها الممنوع والمضطهد والمحروم من الكتابة فتحتضنه، مدافعة عن حقه في الحياة والحرية. كل ما كان ثائراً ضده أصبح المهيمن، من الأحزاب الدينية إلى التجمعات الطائفية، إلى القمع والاستبداد، إلى الظلامية... كل ذلك يتجسد أمامنا بأبشع صورة، أين منها صورة «الديكتاتور» الذي يتبادل الأدوار مع تابعه. انتصر التابع على الديكتاتور فإذا به جمع أكثر استبداداً وتسلطاً، يدعمه التراث الاستبدادي، والتسلط البدائي، والجهل التاريخي. حاور عصام محفوظ العقلانيين في التراث مثل إبن عربي وإبن الراوندي وجابر بن حيان في عدد من المؤلفات. أراد الانتماء إلى هذه الثلة من المفكرين هرباً من واقع لا يستحضر غير المعروفين بتحريم الفكر كي يسود الجهل ويسودوا معه. قبل رحيله بسنوات عام 2006 انسحب عصام محفوظ إلى داخل نفسه يحتمي بكبريائه، من المؤسسات العامة والخاصة التي خذلته بجهل شبابها العائدين إلى القمقم الطائفي. انسحب غير آبه بعوزه، يمارس عبث الحياة والموت إلى أن رحل وبقي الديكتاتور وتوابعه يصنعون الربيع والشتاء وكل الفصول. عودة الممثلات الثلاث إلى بعض من تراث عصام محفوظ شهب لمع في عتمة سماء بيروت والعالم العربي.