شهد لبنان، منتصف الشهر الماضي، حادثة انهيار مبنى في منطقة الاشرفية (شرق بيروت)، ذهب ضحيتها نحو 29 شخصاً من جنسيات لبنانية وعربية وجنوب شرق آسيا. وهذه الحادثة الأليمة شغلت اوساط الرأي العام، وفتحت نقاشاً واسعاً حول سلامة الابنية في لبنان. وتنسحب هذه القضية على اقطار عربية عانت (وربما ستعاني) مزيداً من انهيارات الأبنية، فمصر شهدت أخيراً سقوط مبنى سكني في مدينة دمياط حصد عدداً كبيراً من الضحايا. البحث في هذا الملف معقّد وصعب لتشابك العوامل المؤثرة فيه، وتعثّر مجتمعات دول العالم الثالث بالكثير من الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وغيرها مما يعيق معالجة مثل هذه القضايا بشكل جذري، حفاظاً على حياة الناس وممتلكاتهم. وتختلط المسؤوليات بين دور الدولة عبر القوانين والمراقبة والمتابعة ومنع المخالفات وتطبيق المواصفات، وبين دور القطاع الخاص من المهندس والمشرف والمالك في عملية البناء السليم. ولبنان قد يكون النموذج عن تعقيدات القضية وثناياها، إذ يتردد أن نحو 25 ألف مبنى مهدد في مدينة بيروت وحدها، ولهذا الأمر عدة اسباب يمكن تلخيصها على النحو الآتي: تقسّم الابنية في لبنان الى ثلاث فئات بناءً على تاريخ بناءها. الابنية التي شيّدت قبل الحرب الأهلية 1975 - 1990، والابنية التي شيّدت خلال الحرب، والابنية التي شيّدت بعد انتهاء الحرب في 1991. * في الحالة الأولى (قبل الحرب)، يمكن التحدث عن النقاط التالية: br / - غياب المواصفات العلمية المتبعة حديثاً عن هذه الابنية. - نوع الاحجار التي بنيت بها هذه الابنية (معظمها من الحجر الرملي القابل للتآكل السريع نسبياً من خلال العوامل الطبيعية). - غياب الصيانة والمتابعة عن هذه الابنية. - تواجه هذه الابنية مشكلة عميقة بين المالكين والمستأجرين في تلك المرحلة والتي لم تُحل حتى الآن عبر قوانين تفرضها الحكومة والجهات المختصة. - مجاورة هذه الابنية القديمة أبنية جديدة أثرت على اسسها ودعائمها. * في الحالة الثانية، اي الابنية التي شيّدت خلال الحرب: - تعاني مشاكل قانونية مختلفة كونها شيّدت من دون الرخص القانونية - تعاني هذه المباني من غياب المواصفات التقنية في حماية سكانها في الحالات الطبيعية، فكيف بها اذا ما وقعت هزات ارضية قوية او زلازل؟ - تغيب عن معظم هذه الابنية شروط صحية وحياتية للسكان، من مواقف سيارات ومساحات خضراء محيطة. - تختلط في هذه الابنية الشقق السكنية والمكاتب التجارية. وفي بعضها تواجد شركات او مصانع ملوثة. * اما في الابنية التي شيّدت بعد الحرب فإنها تتمتع بمواصفات افضل ولكنها في كل الاحوال تحتاج الى متابعة ودراسة من قبل الجهات المختصة. وفي هذا المجال، يؤكد ل"الحياة" عضو نقابة المهندسين في لبنان، المهندس لطف الله الحاج، وهو مؤلف كتاب "السلامة العامة في الابنية والمنشآت"، أن "نظام المعالجة والحد من المخاطر يتضمن ثلاثة عناصر أساسية ثابتة هي: أولاً، القانون الذي يحدد المسؤوليات ويوزعها على الاطراف. ثانياً، نظام الضمان على المشاريع والابنية السكنية ما يرفع من مستوى المراقبة والمتابعة. وثالثاً، التشدد في الآليات المتبعة للتدقيق الفني على الابنية". ويضيف الحاج "بعد الكارثة الاخيرة في لبنان اخذت القوى السياسية تتقاذف المسؤوليات، والصحيح هو ان المسؤولية مشتركة تقع على الجميع، من البلدية الى التنظيم المدني وأجهزة الدولة المختلفة، ووصولاً الى صاحب المبنى وقاطنيه". ويقارن بين الأنظمة في الدول العربية ونظيرتها في أوروبا أو أميركا، من حيث "فلسفة البناء وأسسه، وقد وضع معظم الدول العربية أو الدول النامية نصوصاً قانونية وتنظيمية لمعالجة موضوع السلامة العامة. ويمكن الاستفادة من تجاربها، ولكنها في شكل عام، تعجز عن توفير حماية فعالة للمستهلك، وعن مجاراة التقدم في قطاع البناء وفرض القيّم الأخلاقية في القطاع من حيث نوعية التنفيذ والتشدد في التنفيذ الفني، لأن وتيرة البناء اليوم قد تغيّرت وأصبح من غير الممكن ترك الامور للصدفة أو الابتكار أو التخمين وإلا تعرض البناء لمخاطر كبيرة". ويشدد على "ضرورة الكشف، بصورة عاجلة، على المستشفيات والمدارس وخزانات الميه ومحطات توليد الطاقة والمؤسسات التي تضم اعداداً كبيرة من الموظفين، تحسباً من هزات ارضية أو زلازل، كي نضمن أقل عدد ممكن من الضحايا وتسهيل عمل الفرق المختصة في حال وقوع كوارث طبيعية". وفي هذه النقطة، يعتبر الحاج ان "المسؤولية تقع على كل المتدخلين في عملية البناء، من مهندسين، معماريين، مصممين، إستشاريين، مقاولين، مصنّعين وعاملين على التنمية العقارية، لمدة معينة بدءً من تاريخ اتمام البناء". رئيس جمعية "طبيعة بلا حدود"، المهندس محمود الاحمدية، يرى الموضوع من زاوية بيئية، اذ ان "عملية البناء يجب ان تراعي الحفاظ على الاراضي الزراعية الخصبة، والبناء في المناطق الصخرية الصالحة للبناء وغير قابلة للاستصلاح، وعدم الاعتداء على الاملاك العامة (البحرية، النهرية، الاملاك العامة....)، والمحافظة على الآثار والمواقع الطبيعية، لأنها ليست ملكاً لشخص او فئة، بل ثروة وطنية وانسانية عامة يتوجب الحفاظ عليها، والحفاظ على مساحات خضراء بين المنازل كفسحة طبيعية (النسبة العالمية للفرد من المساحات الخضراء في المدن يجب ان تكون 40 شخص/م2، بينما هي اقل من 0,8/م2 في بيروت)، وحماية السكان من التلوث البصري عبر الابنية المتلاصقة ومراعاة التركيبة الجيولوجية للأرض المبني عليها، ومراعاة التوازن بين الالتصاق والبعثرة في الابنية مما يزيد في تكاليف الخدمات لهذه المساكن من كهرباء ومياه". ويضيف الاحمدية "هذا في الشكل العام، اما في موضوع الابنية ذاتها فيتوجب مراعاة الشروط الصحية، من حيث شكل البناء، من انظمة التهوئة والإنارة والحجم والمساحة والتقسيم وعدد الغرف وتباعد الشقق عن بعضها لمنع الازعاج والضجيج، وتوافر المرآب والملجأ والفسحات الخضراء وملاعب الاطفال، واخيراً، وهذا هو الاهم، مراعاة التناسق في الشكل والالوان والارتفاعات واللمسات الفنية، من اجل اضفاء مسحات الجمال على محيطنا البيئي والمكاني". ويستخلص الاحمدية من تجاربه في الدراسة والعمل في الريف السويسري، حيث "المقاييس والمعايير تطبق بصرامة من دون محاباة أو مراعاة إلا بما تقوله القوانين واللمسات الجمالية". ويبدي تخوفه الشديد على "مستقبل الابنية التراثية والتقليدية التي راعت الظروف المناخية للبيئات العربية وتناسقت مع السياق العام في محيطها". وينبه إلى "المخاطر من تدمير الابنية التراثية وهي التي تمثل ذاكرة الوطن والتاريخ والحضارة والكرامة الوطنية". أخيراً، يبقى كل هذا الكلام عن الابنية والتوسع العمراني في أيام عادية واحوال طبيعية، فكيف سيكون الأمر في حالات الهزات الأرضية أو الزلازل؟ وإذا كانت الحكومات استطاعت دفع تعويضات عند انهيار مبنى او اكثر، فكيف ستتصرف في حالات كارثية؟ عندها، هل يتكرر كلام المسؤولين ذاته الذي قيل في حادثة الأشرفية الأخيرة و"يتخدّر" المواطنون، أم تُلقى الملامة على الكارثة ذاتها!