الفاسد بالفعل ذكي، وإلا ما كان له أن يتمكن من دفن قضايا كالجبال، ويمسح أوراقاً مليئة بالحقائق، ويُصْمِت أفواهاً أرادت لحظة ما أن تكشف المستور، لكنها خافت من أن تُحْرم لقمة عيشها، أو تم إغلاقها - وهذا الأقسى - بطرق غير مشروعة بالطبع... الفاسد لا يولد هكذا، ولكن بذرة «الفساد» الخبيثة تنمو فيه في سن مجهولة، وتأخذ في النمو لتوفر البيئة المهيأة لذلك، وما هو مؤكد أن الفساد درجات «ناشئ وشاب وكبير»، «فالناشئ» يؤدي الأدوار الهامشية وينقل الأخبار، ويسد الفراغات التي قد يمر منها بعض الهواء الرقابي الضار، والبذرة في هذه الحال تكون في مرحلة الرضاع، درجة «الشباب» هم الذين توكل لهم الأعمال الحاسمة، التي تتطلب اليقظة والحماسة والاندفاع، لأن هذه الدرجة حلقة وصل لا غنى عنها، وربما يمثلون الطعم الذي ترمي عليه جل تبعات الفساد في ما لو ضبطت قضية فساد، والبذرة هنا تكون في عز نشاطها وأناقتها وجذبها للانتباه ومراهقة جداً، أما الدرجة الثالثة «الكبار» فهؤلاء يستمتعون بأكل الكعكة الكبرى وتوزيع الفتات، وهم يديرون النشاطات بثبات وحذر، والأرجح أن أدوارهم لا تتعدى الإمضاء الأخير على أوراق المسرحية الهزيلة وتغطية التساؤلات المتكررة لعامل الخبرة والدفاع المستميت عن ضحايا الدرجة الثانية، هذا الدفاع لا يقدمه إلا بعض من تتحرك عندهم مساحات إنسانية، منطلقة من خوف بسيط، ومستندة على تخطيط جديد، إلا أن بذرة الفساد تكون هنا قريبة من الذبول للناظر، ولكن الحقيقة تشير إلى أنها شديدة السُمية، فهي تتهيأ لنمو جديد، وترتدي في لحظة الحسم ثياب الذبول والضعف، وتؤدي دوراً تمثيلياً لا يُكْشَف. رئيس مكافحة الفساد أعلن في القريب أن هناك مستشفيات «متعثرة»، وطرق «سيئة» رُصِدَتْ، والبلاغات متزايدة وأن إساءة استخدام السلطة، وممتلكات الدولة، والمحاباة في التوظيف، والكسب غير المشروع تدخل ضمن أولويات عمل الهيئة، وبالتأكيد فإن هذا التدرج وقبله الكشف المبدئي ينتمي له فاسدون من الدرجات الثلاث، وبالتصنيف العملي المختصر ذاته الذي دونته سريعاً، ولو أن مسطرة الحساب والعقاب بيدي لبدأت بدرجة الكبار، لأن معدل ذكائهم هو الأعلى، وخبرتهم عريضة، وقدرتهم على الخروج من المآزق «احترافية»، وشبكة علاقاتهم واسعة، ولذا فضربة مُعْلَنةً في رأس كبير، وعلاج ب «الكي» سينقل الخوف والحذر، ويوقظ الضمائر بسرعة من دون تراكم الصداع العنيف على جهازنا الحبيب، الذي يخطو عامه الأول بأجندة عمل، وخطط جادة، ورصد متلاحق، وحماسة منقطعة النظير، وفوقها كلها تأدية لَقَسَم هو الفصل في مشروع العمل الرقابي بالكامل. أعلم أن مسألة التشهير مستبعدة من ذهنية رئيس مكافحة الفساد، لكونه يرى أن التشهير بالحالات عقوبة بحد ذاتها، لكني مصر على أن التشهير بالفاسد ضرورة حتمية، مع احترامي لمجتمعه الذي ينتمي له، فلا أظن أن هناك بيئة لم تتجرع مرارة الفساد، ولن يبلغ الفساد في ضرره وتداعياته ما بلغه الإرهاب وشكلته خلاياه، ومع ذلك أعلنت قوائمه بالاسم والصورة، ونبذها المجتمع، رغماً عن كل شيء. الفاسد لا خلاف عليه إلا إذا كان هناك شك في آليات التحقيق والضبط والرصد، أو تغليب لجوانب براءة وعدم تثبت، فهذا أمر محل نقاش، على ألا يكون العقاب الأقسى على درجة الناشئين، بل نبدأ من الكبار لأنهم قرأوا «أن الثروة تأتي كالسلحفاة وتمضي كالغزال»، فطبقوا في حياتهم بِجَشع «أن الثروة يجب أن تأتي كالغزال»، نريد من هيئة مكافحة الفساد أن تتبنى مثلي الجديد «الثروة إذا أتت للفاسدين كالغزال، فيجب أن تكشف وتضبط بسرعة الغزال». [email protected] Twitter | @alialqassmi