هو كاتب الجنوب الفرنسي بامتياز. وهو واحد من الذين أبدعوا في كتابة روايات وقصص تدور أحداثها في مدينة مرسيليا. رواياته حظيت دائماً بشعبية كبيرة. وكذلك حين دنا من فن السينما أواسط القرن العشرين حقق أفلاماً نالت بسرعة شعبية قلّما نالتها أفلام ريفية من ذلك الطراز. بل ان شهرته كبرت الى حد كبير وعمَّت العالم كله حين اكتشفت هوليوود - التي كانت تبحث عن آفاق جديدة لدى بداية الستينات - روايته الجميلة «فاني» فحوّلتها الى فيلم حقق نجاحاً هائلاً، وقرّب ملايين المتفرجين من ذهنية وأجواء ذلك الجنوب الفرنسي الرائع. اسمه، طبعاً، مارسيل بانيول. ورواية «فاني» التي استحوذت على حب هوليوود، كانت جزءاً من ثلاثية كتبها عن قصة حب شفافة. وكان هو نفسه قد حوّلها ثلاثة أفلام في أربعينات القرن العشرين. وهذا ما جعله يعتبر كذلك «سينمائي الجنوب الفرنسي» بامتياز أيضاً. ولعل أكثر ما يلفت في أدب بانيول وسينماه، هو أن الطيبة تهيمن على الأجواء تماماً. انه عالم من الحب والود. حتى وان كان لا يخلو من خيبات وأحزان. عالم يكاد يكون من دون أشرار أو من دون صراعات حقيقية. وحين تكون هناك صراعات، لا تكون غالباً صراعات بين الخير والشر، بل بين الطيبين والأقل طيبة. من هنا كان ثمة تساؤل دائم، في الحياة الأدبية الفرنسية عند منتصف القرن العشرين، أي في الزمن الذي أوصل فيه بانيول أدبه وابداعه بصورة عامة، الى الذروة: من أين يأتي بانيول بكل هذه الطيبة في أدبه؟ كيف تراه تمكّن من أن ينأى بنفسه عن شرور القرن العشرين؟ عن الحروب؟ عن الكوارث؟ أما هو فإنه نادراً ما اهتم بأن يفسّر ويجادل. كان دائماً يكتفي بالقول إن مصدره هو الناس والحياة، وإن العدد الأكبر من الشخصيات التي تزدحم بها رواياته وأفلامه، انما يأتي من الحياة ومن الناس الذين عرفهم وعايشهم فعلاً. ولهذا كان الاهتمام كبيراً بمجموعة كتب الذكريات التي أصدرها هذا الكاتب السينمائي عام 1957، وكان قد بلغ الثانية والستين من عمره، بعنوان «ذكريات الطفولة». تضم مجموعة «ذكريات الطفولة»، في الواقع، ثلاثة أجزاء صدرت تباعاً وحمل أولها عنوان «مجد أبي» فيما حمل الثاني عنوان «قصر أمي» وجُعل للثالث عنوان «زمن الأسرار». وكما يدل عنوان المجموعة، لا بد من الإشارة، أولاً الى ان ذكريات بانيول في هذه الأجزاء الثلاثة معاً، لا تحتوي إلا على حكايات السنوات الأولى من عمره، أي تلك التي تمضي بين ولادته ودخوله المدرسة الثانوية. وهذا يعني طبعاً، بالنظر الى كثرة عدد الصفحات، أن الكاتب أورد مئات التفاصيل والحكايات ليس حول حياته الخاصة فقط بل حول حيوات المحيطين به، وحول أجواء الحياة في تلك المنطقة الجنوبية من فرنسا، عند مفتح القرن العشرين. «في الجزء الأول «مجد أبي» لا يروي لنا الكاتب، حياته الشخصية، بل حياة أسرته، بدءاً من الجد العجوز وصولاً الى الأب، الذي كان مدرّساً علمانياً، بل مناضلاً في سبيل العلمانية، محباً للمعرفة محبوباً من الجميع، يساير الناس بلطف لكنه لا يساوم على مبادئه ولا على أفكاره الجمهورية. وبين هاتين الشخصيتين، تتوزع وتتحرك جملة من شخصيات أخرى من الأسرة. فهناك الأم أوغستينا التي زُوِّجت وهي في التاسعة عشرة من عمرها ولم ترحها الحياة والواجبات المنزلية ولو لحظة. وهناك «العم جول»، القريب الطيب الذي لا يفوّت صلاة أو قداساً في كنيسة. وآرمان، المدرس زميل الأب الذي يشارك هذا الأخير معظم أفكاره ويعملان معاً على وضع خريطة للمنطقة الريفية... أما مارسيل، الصغير، والذي سيصبح كاتبنا الذي نعرف لاحقاً، فإنه يصوّر نفسه وحضوره وسط ذلك العالم الطيب الجميل، من خلال مشاهد عابرة لكنها مليئة بالمعاني. منها مشهد يصوره لنا وهو في الرابعة من عمره وقد اكتشف أهله، لدهشتهم، أنه بات يحسن القراءة وان السر يكمن في أنه كان علم نفسه بنفسه حب الكلمات والقراءة من دون أن يتنبه اليه أحد. بعد ذلك نراه في سن العاشرة وقد صاغ قصيدة لمجد زعيم هندي أحمر أولع به منذ قرأ رواية لفينيمور كوبر كان والده أهداه اياها. «الجزء الثاني من «ذكريات الطفولة» يحمل، كما اسلفنا عنوان «قصر أمي». وفي هذا الجزء يخرج بنا الكاتب من اطار المنزل العائلي الضيّق ليتجول في مناطق الطبيعة المحيطة ببلدته. واذ نقول الطبيعة في تلك المنطقة فإننا، بالتأكيد، نعني التلال التي تكاد تكون جبالاً، والغابات التي يحلو الصيد فيها. لكن الصيد والحياة الحلوة ليسا كل شيء هنا... هناك أيضاً بدأ وعي ابن الحادية عشرة على الحب، وعلى الفضائح التي يثيرها هذا الحب. وعلى خوفه الخاص من الفضيحة أولاً وبعد ذلك من «قصر الخوف» ذاك الذي أتى مزيجاً من مكان يقال إنه مرصود حقيقة، ومن خياله الخصب. وعلى قصر الخوف هذا يوقف مارسيل هذا الجزء الثاني، الذي نجده فيه حاضراً أكثر كثيراً مما كان حاضراً في الجزء الأول. ففي الأول كان ثمة كاتب يقدّم نفسه طفلاً يرصده الآخرون عبوراً... أما الآن فإنه الصبي الذي يرصد الآخرين ولكن، فقط، كجزء من انشغالاته الخاصة اليومية التي يصفها لنا في تفاصيلها الطريفة من دون أن يسامح نفسه على خطأ أو يبرر نقاط ضعفه. في الجزء الثالث، وعنوانه «زمن الأسرار» لم يعد الطفل بانيول طفلاً أو صبياً بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد صار الآن مراهقاً، لا يشكّل الحب لديه بدايات وعي، بل وعياً كاملاً. وها هو رصده للآخرين يتحوّل من رصد برّاني يحتاج الى مزيد من التعمّق، الى رصد جوّاني يحاول أن يسبر الأغوار ويفهم النفسيات التي تقف خلف التصرفات. من هنا صرنا أمام وعي اكتمل: وعي الذات ووعي الآخر. وآية هذا ان قراءات مارسيل تحولت من فينيمور كوبر الى جول فيرن. ووعيه صار مرتبطاً بصبية حسناء تظهر فجأة في حياته هي ايزابيل ابنة شاعر معروف. ايزابيل التي ذات لحظة خالدة في تاريخ مارسيل ستمد يدها نحوه كي يقبلها. وهذا ما سيجعله من فوره يتخلى عن ليلي رفيقة صفه ويعيش غراماً صاخباً مع ايزابيل، لا يفيق منه الا حين يكتشف أن اباها الشاعر سكير، وأنها هي بالكاد تختلف عن الأخريات. وهذا كله سيوقظه من حكاية الحب تلك... الحكاية التي ستصبح مجرد ذكرى منذ اللحظة التي يتفتح فيها وعيه الرجولي اذ يتمكن وحده من قتل أفعى لا يقل طولها عن ثلاثة أمتار. واذ يتواكب هذا كله مع نجاحه وتخرّجه من الصفوف الابتدائية ليلتحق بالثانوية، يوقف مارسيل بانيول عند هذه النقطة، تلك الذكريات التي ضمتها كتب ثلاثة تعتبر من أجمل ما صدر في فرنسا في اطار مثل هذا النوع من الأدب. ونذكر أخيراً ان الجزأين الأوّلين من هذه الثلاثية التي كتبها مارسيل بانيول (1895 - 1974) عن طفولته ومنطقته حُوِّلا فيلمين حققا في ثمانينات القرن العشرين نجاحاً كبيراً. [email protected]