خلال النصف الأول من القرن العشرين، عرف الأدب الريفي الفرنسي - وتحديداً أدب الريف الجنوبي - ذروته، رواية ومسرحاً، على يد اثنين من الكتاب صح اعتبارهما في زمنهما، ثم لاحقاً، من كبار الكتاب الذين عرفتهم فرنسا طوال ذلك القرن: جان جيونو ومارسيل بانيول. والحقيقة ان التشابه بين عوالم الاثنين، كان من الوضوح الى درجة ان ثمة، حتى الآن، من يخلط بينهما، حتى وإن كان ثمة ميل دائم الى اعتبار ان جيونو كان الأفضل من بين الاثنين، من ناحية خلق الشخصيات. فيما تميّز بانيول، إذ عمل الاثنان في السينما إضافة الى كتابتهما الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، تميّز من الناحية السينمائية، إذ، حتى أيامنا هذه، لا تزال ثمة أفلام تحمل اسم بانيول وتعتبر علامات في تاريخ السينما الفرنسية. ومع ذلك كله من الصعب أن نقول إنه كان ثمة تنافس بين الاثنين، حتى وإن عاشا في وقت واحد، وأحياناً في مكان واحد. بل يمكن الحديث عن نوع من «التكامل» أو «التعاون غير المباشر» الذي كان فيلم «زوجة الخباز» علامته الرئيسة. فالحال أن فيلم «زوجة الخباز» الذي عرض عام 1938، ويعتبر اليوم من كلاسيكيات السينما الفرنسية الانسانية التي سادت خلال مرحلة قبل الحرب العالمية الثانية، حققه مارسيل بانيول انطلاقاً من بعض فصول رواية لجان جيونو تحمل عنوان «جان الأزرق». وثمة من يؤكد ان بانيول حين اقتبس موضوع «زوجة الخباز» انما سرقه سرقة من زميله جيونو، من دون أن يصرح بذلك أول الأمر... ولكن من المؤكد أن ثمة، ها هنا، مغالاة، إذ كيف كان في وسع بانيول أن يسطو على عمل معروف الى هذا الحد؟ ومن هنا يمكن الحديث، بالأحرى، عن تعاون استفاد فيه بانيول، استفادة كبيرة من الحبكة التي صاغها جيونو... وهو نفس ما كان فعله في الكثير من أفلام أخرى كان حققها خلال المرحلة السابقة، وسيحقق بعضها بعد «زوجة الخباز»، أي في تلك الفترة التي زاد فيها اهتمامه بالسينما أضعافاً، وكوّن شركة خاصة مستقلة لإنتاج الأفلام. ونعرف أن بانيول حقق أفلاماً عدة، بعدما كتب سيناريوات حققها غيره من المخرجين. ومن بين أفلامه - كتابة أو اقتباساً، وإخراجاً وإنتاجاً -: «جوفروا» و «الشبونتز» و «آنجيل». أما ثلاثية «ماريوس» المقتبسة من مسرحية كتبها بانيول، فإنه لم يكن هو مخرجها، كما يخيّل الى كثر، بل حققها الانكليزي، من أصل مجري، الكسندر كوردا - بالنسبة الى الجزء الأول «ماريوس»، ومارك اليغريه، بالنسبة الى الجزء الثاني «فاني»، أما الجزء الثالث «سيزار» فقد تولى بانيول تحقيقه بنفسه. المهم، أن أي فيلم من أفلام بانيول لم يضاه في نجاحه، نجاح «زوجة الخباز». وذلك بكل بساطة لأن شعار الكاتب/ المخرج في ذلك الحين كان يقول بضرورة «إضحاك تلك الكائنات التي لديها ألف سبب وسبب للبكاء». ونعرف ان فرنسا العام 1938، كانت تعيش حال اختناق ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث طبول الحرب كانت تقرع بكل قوة... وكان الناس، الذين كانت السينما بالنسبة اليهم وسيلة الترفيه الوحيدة في ذلك الحين، في حاجة الى ان ينسوا همومهم. وهل كان ثمة ما هو أقدر على تنسية الهموم من ضحك الإنسان على نفسه، على عاديته؟ ترى، هل بغير هذه الوصفة حقق موليير كل ذلك النجاح الذي حققه قبل قرون عدة؟ وذكر موليير ليس من قبيل الصدفة هنا، في هذا المجال، على أية حال، ذلك ان اشتغال السينما بحسب أسلوب موليير المسرحي كان رغبة يعبّر عنها بانيول ويعمل في سبيل تحقيقها. وهو لئن كان قد أخفق في ذلك في أفلامه السابقة، فإنه في «زوجة الخباز» كان مولييرياً الى أبعد الحدود. تدور أحداث الفيلم من حول ايمابل كاستانييه، الخباز الذي اصطحب زوجته اوريلي، ذات يوم، ليستقر في بلدة شعبية ريفية صغيرة تقع في أعالي منطقة البروفانس في الجنوب الفرنسي... وقد كان ايمابل من اجادة العمل وحسن العشرة، ما جعله يستولي على قلوب سكان البلدة منذ أيامه الأولى. فأحبوه وأحبوا خبزه وكل ما يصنعه، وصار معلماً أساسياً من معالم البلدة. وهو كان رجل نشاط ودأب حقيقي، لذلك ما كان من شأنه أبداً أن يغادر فرنه أو دكانه، إلا حين يشعر بالرغبة في التوجه الى حيث زوجته ليبدي حبه لها وإعجابه بها. وهكذا عاش في سعادة مطلقة، وأمّن للسكان كل ما يحتاجونه من ذلك الغذاء الطيب، ولزوجته كل الحنان والحب والاهتمام. لكن اوريلي كانت امرأة جاحدة، إذ ها هي ذات صباح، تترك بيت الزوجية وتترك الزوج هائمة على وجهها مع راع من مناطق الجوار يبدو ان انهماك زوجها في عمله قرّبها منه. ويقع النبأ على خبازنا وقوع الصاعقة... بخاصة أن الأمر لم يبق سراً ولو لساعات، إذ ها هي البلدة كلها تلهج بما حدث... وإذ تبدى رد الفعل للوهلة الأولى ساخراً، بلطف ومحبة، فإن السخرية سرعان ما انقلبت تعاطفاً بعد حين... والحقيقة أنه كان في ملامح الخباز وردود فعله ما يقطع نياط القلب. فهو، كما انه خباز حقيقي ماهر، كذلك هو عاشق كبير مولّه بزوجته ومتيّم بها. لكن هذا لم يكن كل شيء... إذ في الحقيقة كان لا بد للخباز، إثر تلك المأساة التي تعرضت لها حياته وتمزق لها فؤاده، من أن يهمل عمله. إذ كيف يمكن أن يصنع خبزاً طيباً للناس، من فقد ملهمته وصفاء حياته اليومية؟ وهكذا، إذ شعرت البلدة، من ناحية بتعاطفها مع الخباز في محنته، ومن ناحية ثانية - وهذا هو الأهم في نهاية الأمر - بخطر الافتقار قريباً الى الأرغفة الطيبة التي يصنعها الخباز... لم يعد أمام السكان الا أن يستنفروا أنفسهم وإمكاناتهم لمساعدة الخباز على استرجاع الزوجة الهاربة. ويكون في طليعة المستنفرين قسيس القرية نفسه... وهكذا إثر تدخل السكان والقسيس، سيتاح لكل شيء أن يعود الى قواعده سالماً... لا سيما أن الجهود توجت بعودة الزوجة عن غيّها ورجوعها صاغرة هادئة الى منزل خبازها العاشق، في مشهد تختلط فيه القسوة بالحب، والدموع بالضحكات... مشهد لم يتمكن متفرجو السينما الفرنسيون من نسيانه الى الأبد. إذا كان المشهد الأخير قد لعب دوراً أساسياً في تعاطف المتفرجين مع الفيلم، فإن العنصر الآخر الأساسي الذي اشتغل لمصلحته، كان ذلك المناخ الذي خلقه مارسيل بانيول (1895 - 1974) من حول هذا الموضوع: انه العالم الصغير نفسه، الوديع والهادئ، والذي لا يريد من الأقدار الا ان تتركه يعيش حياته اليومية بسلام... العالم نفسه الذي نجده في الكثير من أفلام مارسيل بانيول الأخرى: عالم يتألف من الريفيين الطيبين، والثرثارين، والعوانس وأستاذ المدرسة والقسيس، عالم البلدات الصغيرة التي تعيش صراعاتها التافهة أحياناً وكأنها نذير بنهاية العالم، فيما بالكاد يتنبه الى الأحداث الكبيرة التي يمر بها العالم الكبير. اننا هنا ازاء كون على حدة تصفه التفاصيل الصغيرة، كون تعيش شخصياته موزعة بين كرمها وأنانيتها، حبها لعملها وخوفها من الحرمان... شخصيات مليئة بالإنسانية، بكل ما في هذه الكلمة من معان إيجابية ولكن سلبية أيضاً. ومن هنا لم يكن غريباً لهذا الفيلم أن يحقق كل النجاح الذي حققه في حينه وأن يساهم حتى في ايصال نجومه، ومنهم ريمو وجينيت لكلرك، الى الذروة، التي وصل اليها أيضاً بانيول، كاتباً ومخرجاً، موصلاً في طريقه صديقه اللدود جيونو الى فن السينما بطريقة مواربة. [email protected]