كان عام 1950، هو العام الذي قرر فيه غابريال غارثيا ماركيز أن يصبح كاتباً. قبل ذلك كان يكتب، في الصحافة وفي غير الصحافة وكان يقرأ بنهم، لكنه لم يكن، بعد، قد اتخذ قراره بأن تصبح الكتابة مصيره النهائي. من هنا أهمية هذا القرار الذي اتخذه يومها معتبراً تلك اللحظة نقطة الانعطاف الأساسية في حياته. يومها لم يكن بلغ، بعد الخامسة والعشرين من عمره، لكنه كان في سن تؤهله لأن يتخذ قراراً. فكيف حدث هذا؟ في كتاب السيرة الذي صدر قبل فترة قصيرة، وكتبه الإنكليزي جيرالد مارتن ليصبح بسرعة أهم حدث أدبي ويترجم الى لغات عدة، يقول مارتن إن القرار اتخذه غابو، حين كان في رفقة أمه يزور في بلدته أراكاتاكا، بيت الجد الذي كان مسقط رأس الفتى وقد قررت أمه بيعه. بحسب مارتن وقف غابريال خارج البيت ينظر إليه بإدمان، متذكراً سنوات طفولته فيه ثم اتخذ قراره: سأكون كاتباً، على الأقل حتى أرسم على الورق ذكريات تلك الطفولة. أما ماركيز نفسه فإنه يروي الحكاية ذاتها تقريباً، لكنه يقول إنه إنما دخل الى البيت خلال تلك الزيارة وراح يتجول بين الغرف، حتى استعاد ذكريات طفولته في الغرفة التي شهدت تلك الطفولة، واتخذ قراره. لسنا ندري ما إذا كان علينا أن نعتبر الفارق بين الحكايتين كبيراً وجديراً بأن يتوقف المرء عنده. فما الفرق إذا كان ماركيز اتخذ القرار داخل البيت، أو من دون أن يدخل إليه؟ غير أن الأمر سرعان ما يتخذ أهمية ان نحن تذكرنا أن السيرة التي كتبها مارتن في عنوان «غابريال غارثيا ماركيز: حياة» لم تصدر إلا بموافقة ماركيز نفسه، بعد أن ساعد مارتن على العمل عليها طوال سبعة عشر عاماً. ما يعني أن في الإمكان اعتبارها نهائية ومأذونة، بل نعرف أن ماركيز قال عنها: «إنه لأمر جيد أن يكون للمرء سيرة حياة تكتب في الإنكليزية». ومن هنا لا بد من طرح السؤال: أي رواية تصدق حول تلك الحادثة الصغيرة: رواية ماركيز أو رواية ماركيز التي لم تكن شفهية بل ترد في الجزء الأول من سيرته الذاتية، أي كتاب ذكرياته الذي كان صدر عام 2002، أي في الوقت الذي كان مارتن يشتغل بجهد وتأنٍّ على كتابه هو الخاص عن ماركيز؟ الحقيقة إن المقارنة المعمقة بين ما جاء في كتاب مارتن، الذي بدوره لا يغطي سوى المرحلة الأولى من حياة ماركيز، وبين ما جاء في كتاب هذا الأخير، ستضعنا أمام مثل هذا السؤال مرات ومرات. أما الجواب فهو بالتأكيد: علينا أن نصدق مارتن، أكثر بكثير. لأن هذا الأخير إنما حرَّض على أن يصوغ كتاباً علمياً موثقاً، فيما نعرف أن صاحب «مئة عام من العزلة» تعامل مع النص الذي كتبه عن نفسه، تعامله مع رواياته. فهو الذي لا يفتأ يقول كلما سئل إن ما من شيء أو حدث في أي رواية من رواياته، إلا وله أصل في الحياة الحقيقية، كان كل همه أن يأخذ هذا الأصل ويعيد الاشتغال عليه. ويبدو انه هكذا فعل في ذكرياته التي عنونها «تعيش لترويها» آملاً أن يكتمل العمل في نهاية الأمر في ثلاثة أجزاء تغطي مجمل حياته حتى لحظة كتابته السطر الأخير من الجزء الثالث. لكن السؤال الذي لا بد من أن يطرح الآن هو: هل سيكتب ماركيز حقاً جزءاً ثانياً ثم جزءاً ثالثاً، بعد النجاح الكبير الذي حققه «تعيش لترويها»؟ هل تراه حقاً في حاجة الى كتابة هذين الجزءين وقد تجاوز الآن الثمانين من عمره، بعدما وفر لكاتب سيرته (والذي لم يكن أول من يكتب هذه السيرة على أية حال، حيث نعرف أن ثمة نصوصاً كثيرة، معظمها صدر أصلاً في الإسبانية، تروي حياة ماركيز)، كل ما يلزم من معلومات ودعم ووثائق، سهلت على مارتن مهمته؟ من الصعب، طبعاً، الإجابة على مثل هذا السؤال، ومع هذا نعرف أن ماركيز، على رغم تقدمه في الشيخوخة، لا يزال قادراً على أن يفاجئنا، بل ان ثمة أنباء تصل بين الحين والآخر تقول إنه يشتغل، مع صحافي صديق له، على نص ربما يكون الجزء الثاني أو الثالث من المذكرات. وفي انتظار وضوح هذا كله، ينكب مئات ألوف القراء، وفي عدد لا بأس به من اللغات على قراءة «تعيش لترويها» (في العربية وحدها هناك ترجمتان رائجتان...). وفي شكل أكثر تحديداً: على الاستمتاع بقراءة هذا الكتاب، الذي لا شك يُقرأ بنفس المتعة والتعمق اللذين تقرأ بهما روايات ماركيز الكبرى. بل قد يصح أن نقول إن هذا الكتاب (على رغم أنه لا يتناول أكثر من السنوات الأولى من عمر ماركيز، أي السنوات التي سبقت تحوله الى ذلك الكاتب الكبير، الذي يوضع في القرن العشرين في مصاف فرانز كافكا وتوماس مان وجيمس جويس) يصبح بالتدريج ضرورياً لمن يريد، ليس فقط أن يفهم تفاصيل سيرة هذا الكاتب الكبير، بل حتى بعض أهم التفاصيل والمنعطفات في رواياته وقصصه. فإذا كان ماركيز قد قال دائماً إن كل ما كتبه له وجود أساسي في حياته وفي الحياة التي رصدها من حوله، لا شك في أن «تعيش لترويها» يحمل الكثير من هذا كله. ولكن هل تراه يحمله في صيغة الحقيقة؟ ليس هذا مؤكداً... وهو أمر لا بد من قوله وتكراره. فماركيز نظر الى العقود الأولى من حياته، في «تعيش لترويها» تماماً كما نظر الى الواقع من حوله. ومن هنا كان محقاً كاتب مقال عن كتاب الذكريات هذا، جعل عنوان مقاله «الحياة التي حلم بها غابريال غارسيا ماركيز»، معتبراً أن الكاتب خلط في نصه الطويل (نحو 600 صفحة) حياته الخاصة والأحداث السياسية والمعيشية، وكذلك الأحلام والتفسيرات أيضاً. ولعل ما يساند هذا هو معرفتنا بأن ماركيز نفسه - وبحسب ما قال دائماً - لم يكن من عادته في طفولته وشبابه المبكر أن يدون ملاحظات، ومن هنا فإن كل ما يرويه في ذكرياته هذه (والتي تطاول حياته تحديداً منذ سن الخامسة الى سن الثلاثين) إنما استقاه من ذكرياته، ومن ذكريات معارفه وأقاربه، ثم أخيراً - وهذا أمر بالغ الأهمية - من رواياته وقصصه ونصوصه الصحافية. ونحن نصدِّق ماركيز حين يقول هذا، هو الذي يتوقف أول الأمر طويلاً عند بيت جديه في تلك المنطقة الريفية المقفرة حيث عاش وسط الغابات حتى سن الثامنة. والحقيقة أن علينا أن نعود ونقرأ ما كتبه جيرالد مارتن عن تلك السنوات نفسها، كي ندرك أسلوب ماركيز في التجوال الحر بين ذكرياته. ومهما يكن من أمر، فإن ما يهم هنا، في «تعيش لترويها»، ليس «الحقيقة»، بل كيف يتذكر الكاتب هذه «الحقيقة». كيف يرويها، ويغوص فيها. وكيف يذكرنا بكم أثرت على رواياته كمادة برسم الاستعمال في هذه الروايات. ولعل هذا يرتبط أساساً، بالعنوان الذي اختاره ماركيز لكتاب ذكرياته «تعيش لترويها» والضمير المتصل يعود هنا الى الحياة التي يعيشها المرء - الكاتب هنا -، ما يعني أن هذه الحياة لا تكون جديرة بأن تكون حقيقية وموجودة إلا إذا رويت. ما يعني، بالتالي أيضاً، أن روايتها هي ما يبرر وجودها. وكلمة روايتها هنا لا يعني انعكاس الحياة في الكتابة بتفاصيلها الحرفية، بل انعكاسها في وعي من يروي. ولعلنا، انطلاقاً من هنا ندرك الفارق الأساس بين رواية حقيقية موثقة لحياة ما (كتاب جيرالد مارتن، مثلاً)، وبين رواية صاحب الحياة لهذه الحياة... الرواية التي تجعل النص الإبداعي المكتوب هو هذه الحياة. ومن المؤكد أن هذا يذكرنا بما أجاب به ماركيز ذات يوم قارئاً سأله مستنكراً: هل يعقل في رواية واقعية - «مئة عام من العزلة» - أن تطير الخادمة ريجيديوس فوق البيت؟ فقال له ماركيز: أين رأيت هذا؟ «في الرواية صفحة كذا» أجاب القارئ. «إذاً... الأمر معقول طالما أنك رأيته في الرواية...». في هذا المعنى، لا شك في أنه سيكون علينا، في نهاية الأمر، بدلاً من أن ننصرف الى مقارنة ما، بين كتاب سيرة ماركيز كما كتبه جيرالد مارتن، وبين السيرة الذاتية «تعيش لترويها»، أن نكتفي بالقول إن الكتابين يتكاملان... تماماً كما سيمكننا أن نقول أيضاً إن كتاب مارتن و «مئة عام من العزلة» يتكاملان، وإن «مئة عام من العزلة» وغيره من أعمال ماركيز «الخيالية» الكبرى، تتكامل مع «تعيش لترويها» بحيث يصبح هذا كله متناً واحداً. [email protected]