لم تمنع حرارة الشمس المرتفعة والتي راوحت في معظم مدن وقرى المنطقة الشرقية بين 45 و48 درجة مئوية، الأطفال من الاحتفال بمناسبة القرقيعان والتي تصادف يوم النصف من رمضان من كل عام، وتعد من المهرجانات الموسمية التي تلاقي اهتماماً كبيراً من سكان دول الخليج وبعض الدول العربية مثل الشام والعراق، وهذا الكرنفال الشعبي والذي يقوده الأطفال يعد من أبرز العادات الشعبية الرمضانية في المنطقة. وتبدأ احتفالاته من بعد صلاة العصر وتمتد إلى منتصف الليل، إذ يجوب الأطفال الشوارع والأزقة برفقة «المسحراتي» أو «أبو طبيلة» كما يحب للبعض تسميته، مرددين الأهازيج الشعبية التي لا يتردد صداها إلا في هذا التوقيت من كل عام، وسط ما يمكن أن يطلق عليه «كرنفالاً محلياً». وتعتبر هذه العادة الشعبية لا تزال متمسكة ببريقها، على رغم محاولة البعض التقليل منها، بعد دخول العولمة بشكل بطيء عليها، لاستحضارها التراث بصورة لافتة، وترتكز على القديم في كل شيء بدءاً من الأزياء الشعبية التي يزدحم بها المكان، وصولاً إلى الحلوى والهدايا المقدمة، وحتى طريقة تقديمها، ويتكفل «المسحراتي» برسم خارطة التنقل من زقاق لآخر، وترتدي الفتيات احتفاءً بهذه المناسبة زيّاً شعبياً يعرف ب»البخنق» أو «الجلابية»، ما دفع محال الملابس الجاهزة للاستثمار في هذه المناسبة، ووضع أسعار متفاوتة للأنواع التي يكثر الطلب عليها في هذا التوقيت من كل عام، بينما يكتفي الأولاد بارتداء الثوب الأبيض والطاقية (الكوفية) المذهبة أو البيضاء، ويعلقون حول أعناقهم أكياساً قماشية يجمعون في داخلها ما يحصلون عليه من المنازل التي يطرقون أبوابها. وعلى رغم اختلاف الأهازيج والأبيات من بلد خليجي لآخر، إذ يتخذ الأطفال في الكويت أبياتاً تختلف عن أمثالهم في قطر، وكذلك الحال مع بقية البلدان، ففي العراق على سبيل المثال يردد الأطفال أهزوجة «الماجينة» والتي تبدأ ب»ماجينة يا ماجينة، حل الكيس وانطينه»، ولا تختلف طقوس المدح والثناء لأهل المنزل الذي يكرم الأطفال ولا يرجع أياديهم خاوية، كما لا تختلف طريقة الهجاء التي ينشدها الأطفال في حال بقية أبواب منازل موصدة في وجوههم. جرت العادة الشعبية أن يشكل الأطفال فيما بينهم مجموعات صغيرة وعادة ما يكونون أقارب، ويتنقلون من منزل لآخر ومن حي لآخر، إلا أن قرى في الأحساء، لها طقوس خاصة لم تتغير من زمن بعيد، إذ يبدأ القرقيعان فيها من ساعات الظهر الأولى، حيث يجتمع الأطفال في الساحة الكبيرة للقرية في انتظار قائد المسيرة وهو «المسحراتي»، لتبدأ رحلة الكرنفال مع أول قرعة للطبلة الكبيرة التي يحملها، وهم يرددون خلفه الأهازيج الشعبية المعروفة، ويمكن أن يجتمع خلفه أكثر من 200 طفل وطفلة من دون مرافقين، وفي المقابل يقف أصحاب المنازل فوق حافة سطوحهم أو على الأبواب ليقذفوا أكياس القرقيعان، بينما يستغل الجيران فترة انتظار قدوم المسيرة في استحضار قصص ومغامرات الماضي المتصلة بهذه المناسبة، لينتهي عمل أصحاب المنازل في الوقت الذي يفرغون فيه محتوى سلالهم فوق رؤوس الأطفال، وتنتهي مسيرة الأطفال بالمرور بآخر منزل في القرية ليتفرقوا ويفرزوا ما قاموا بجمعه بسعادة غامرة. ويراهن كثيرون على أن العولمة لم تؤثر في هذه العادة الشعبية، بينما فريق آخر يؤكد من الزحف المتسارع لتغيير الوجه التقليدي لهذه العادة الضاربة في القدم، ويرجعون ذلك للنشاط المفرط لمحال تجارية لإدخال أفكار غريبة على الحلويات والهدايا المقدمة وطرق تقديمها أيضاً، والتي تكلف مبالغ كبيرة تحت بند التميز والاختلاف، إذ استعدت محال المكسرات والحلويات لهذه المناسبة قبل أسبوع من انطلاقة هذا الكرنفال، وانتشرت البضائع المخزنة في المستودعات حتى وقت خروجها على أشكال هرمية أمام وداخل المحال التجارية، إذ تمثل وقت جني الأرباح لوجود طلب يفوق ما هو معروض، وتسهم في تعويض فترة الركود التي تتعرض لها هذه المحال في غير هذا الشهر من كل عام. لا يمكن وصف الحال التي تلحق صاحب المنزل الذي يرد نداءات الأطفال في هذه المناسبة، وبخاصة إن كان من المقتدرين، بعد أن يعمد الأطفال على ربط خيط أسود في بابه بعد الانتهاء من أبيات الهجاء والذم التي تصفه بالبخل، تعبيراً عن غضبهم واستيائهم، وتمنح منازل «المسحراتي» أكياساً خاصة به تكريماً للمجهود الذي يقوم به، وتختلف الهدايا المقدمة له فالبعض يفضل مبلغاً من المال، بينما البعض الآخر يكتفي بالمكسرات والهدايا، ويرافق المسحراتي أحد أبنائه أو أقاربه يتكفل بحمل كيس كبير يضع فيه تلك الهدايا. وجرت العادة أن يكون «القرقيعان» المقدم باسم آخر مواليد الأسرة، وهذا ما دفع كثيرين لابتكار طرق عصرية تزاحم التراثية البسيطة، بدءاًً بتصوير الطفل في الأستوديو بطريقة مميزة، ووضع صوره التي تحمل عبارات التهاني والتبريكات داخل علب مبتكرة، وشاركت برامج التواصل الاجتماعي في هذه المناسبة من خلال تبادل الأفكار والتهاني وحتى الهدايا، في محاولة لإقحام أدوات العصر الحالي في أكثر العادات الشعبية تمسكاً بالتراث، وتمثل جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمعات الخليجية، والتي تستحضر في مثل هذا الوقت من كل عام. واختلف المؤرخون في تاريخ بداية هذه العادة الشعبية، إذ يرجع كثيرون بداية انطلاقها منذ ميلاد سبط الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الإمام الحسن، إذ تنقل السير أن النبي وزع الحلوى على الأطفال ابتهاجاً بأول حفيد له من ابنته فاطمة الزهراء، بينما يخالف بعض المؤرخين هذه الرواية ويسندونها إلى حوادث مختلفة.