المكان: ساحة عند تقاطع شارع محمد الخامس وشارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة، الوقت: ظهيرة يوم الثالث من آب، ذكرى وفاة «الحبيب بو رقيبة»، السكون يخيم على المدينة، يخرقه صوت رجل من الظنون، هو «السردوك»، يحدّث مخلوقاته الوهمية، ويطوح مصارعاً طواحين هوائه. يهب الناس من قيلولتهم على أصوات أبواق سيارات الشرطة والإسعاف، ليشاهدوا «كائناً صغيراً بحجم الإصبع» يتسلق «بسرعة الصرصور» ساعة برج 7 نوفمبر، الذي نصب مكان تمثال الحبيب بورقيبة المخلوع من مكانه، بعدما أطيح به، ليصبح برج الساعة علامة على الانقلاب الذي قام به «زين العابدين بن علي» على «الحبيب بو رقيبة»، ويكرس رمزاً للسيادة والوطن. بهذا المشهد الصادم يستهل الكاتب التونسي كمال الرياحي روايته «الغوريلا» الصادرة عن دار الساقي 2011، مستدرجاً القارئ إلى غرفة مظلمة، تتلاعب به أعتى الانفعالات والمشاعر المتباينة، يعرض فيها ببراعة واقعاً هو واقع تونس، لكنه يمكن أن يكون واقع أي بلد من بلادنا العربية، الذي أدى إلى الحالة الراهنة التي تشهدها المنطقة العربية بعد يوم «بو عزيزي» في سيدي بو زيد التونسية. يُستدعى الماضي إلى اللحظة، وتتلاقى مستويات الوقائع مجتمعة في ساحة الحدث، فالرجل المعلق في الأعالي، انحلّ اسمه «صالح» إلى النسيان أمام اللقب «الغوريلا»، الذي وصمه به رفاقه عندما كانوا صغاراً يلعبون كرة القدم، ويرضى صاغراً موقع حارس المرمى الذي لم يكن يرضاه أحد آخر. من عليائه، والحشود تتكاثر تحته كالنمل، يمرّ في خلده شريط حياته منذ الطفولة، عندما كان يشعر بالفخر وهو طفل من أطفال بورقيبة، لتصدمه الحقيقة الشرسة التي لم يعرف الابتسام بعدها، حقيقة أنه «لقيط، ابن حرام» كما كان يعيره رفاقه، وأن اللقطاء كلهم ينادون ب «أطفال بو رقيبة»، وما لهذه التسمية من دلالة على كون هذا الغوريلا هو نموذج للمواطن التونسي. بصاص قديم ويتوالى السرد متنقلاً بين الراوي الذي يقول عن نفسه في أحد الأدوار: «هناك في الأعلى لا أحد يدري ما يدور في رأس الغوريلا غيري، الراوي السابق ليس سوى بصاص قديم»، وبين الغوريلا، والشخصيات الأخرى، وهي تحكي حكايتها، أو حكاية آخرين، تجمع بينهم علاقات وماض مشترك. حكايات تتناسل من بعضها، تنهض خلالها الشخصيات وتنمو بالتوازي، تنضج مع بعضها عندما يكتمل المشهد، أو تتكامل اللوحة التي ترسم بمهارة لتعطيها اللمسات الأخيرة شكلها النهائي. أشخاص الرواية يمشون إلى مصائرهم المحكومة بواقع مرّ، يلقيهم السارد فيه، محرراً إياهم من أي التزام أخلاقي أو ارتباط بمنظومة قيمية، أو معايير أخلاقية يقيدها إليها، أشخاص ترسم هوياتهم بنبش أعماقهم كما تتداعى مكنونات الذات متحررة من سطوة العقل الواعي ببراعة محلل نفسي خبير. لنتعرف إلى «شاكيرا» الذي عانى الحرمان العاطفي في طفولته، فتأخر بالنطق حتى العاشرة، ولاقى الحنان والأمان في جسد شاب، ثم عندما فقده وفقد والده أمضى حياته يبحث عن حضن صاحبه في الرجال جميعهم، و «على كلاب» رجل الأمن الذي يقضي على الغوريلا، وطفولته التي انبنت على اللعنات والحرمان ونكران الحاجات التي ولدت لديه ولعاً باكراً بالعنف والإيلام، و «الجط» الذي يكتشف الموت الذي يسكنه وأنه ليس أكثر من «قواد كبير لمصاصي الدماء»، وبوخا الذي جفف نفسه القهر فصار أعماقه مالحة، يقتل زوج أخته ويزوجها بآخر بعد شهرين، يعمل بوخا مع علي كلاب بممارسة السطوة على سوق الملاسين، ثم يطعنه زوج أخته لاحقاً، وحبيبة المرأة التي أمضت حياتها تدفن أسرارها المؤلمة، بينما جسدها يكبر ويترهل، وتقع بين يدي الجط فتقرر الانتقام منه، لكن الغوريلا يفوت عليها الفرصة إذ يسعى هو الآخر إلى الانتقام من الجط بإهانة رجولته وكرامته. أما الغوريلا، فشخص عجنت حياته أيضاً بالذل والمهانة والحرمان، تلصق به التهم التي تجعل حياته هروباً بهروب، يعيش بالارتياب، أحلام يقظة وكوابيس ليل وفظاعات واقع تتماهى مع بعضها، يمضي سنوات حارساً لقبر بورقيبة، ثم في لحظة قد تكون أهلاس نهار أو كوابيس ليل، يضغط الزناد ويفرغ رشاشه حول القبر بين الناس والسياح ويهرب. في هذا الواقع الشرس، نتبين أنهم كانوا ضحايا خطف من قبل جماعة مسلحة، ترميهم في معسكر تدريب، وتؤهلهم للقيام بالجهاد باسم الدين، وقد تزامن ذلك مع عودة حوادث العنف والاختطاف إلى البلاد، مع اتهام السلطات الجماعات الإرهابية المتطرفة، وتعاون رجال الدين والنظام في السر، حتى في الأمور الاقتصادية. بعد سرد الحكاية، أو الحكايات، تعود الدائرة لتنغلق على نفسها في ساحة البرج، ويكون «على كلاب» قد وضع حاجزاً بلاستيكياً حول البرج، وقام بكهربة الساعة بحيث يتعرض الغوريلا إلى صعقات كهربائية، هو الذي أمضى حياته في الهوان، لم يرضَ بميتة رخيصة، أراد أن يموت ميتة الأحرار: «الخنزير يرفض أن يموت برصاص رخيص، بينما نحن نموت بالحمى والحصبة. الخنزير لا يرضى بأن يعيش أعور، إذا اقتلعت إحدى عينيه مات سريعاً»؟ يلحق الكاتب عمله، بسرد قصته هو الآخر، عندما همّ بكتابة عمله، وتوجه إلى بيته المنسي في الريف، منقطعاً عن العالم لينهي القصة، كان هذا في الرابع عشر من كانون الثاني 2011، فتعيده الأحداث التي انفجرت في تونس العاصمة إلى بيته، وينزل ليشارك فيها بعد أن حرق «بوعزيزي» نفسه. وكانت هذه الرواية، بما تحمل من الكوميديا السوداء، والعناوين الطريفة للفقرات التي توزعت النص، والدلالات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وما تقدمه من إضاءات على الحالة التونسية التي تنسحب على واقع الشعوب العربية، والنتيجة التي لا بد أن تؤول إليها. كما أن الغرائبية أو الفنتازيا التي تجلت في الأحلام الكثيرة، وفي أهلاس تخيم على الشخصيات في لحظة الألم القصوى، إضافة إلى الأسلوب والحوار الذي جاء في بعض حالاته باللغة العامية لتبدو الأحداث واقعية بدرجة عالية من الشفافية.