كُتب على غلاف رواية حسن بن عثمان " أطفال بورقيبة" دار التنوير، ان المؤلف خضع إلى محاكمة في العام 1986 بعد صدور مجموعته القصصية " عباس يفقد صوابه" ولا نعرف فحوى الحكم وحيثياته،ولا محتوى المجموعة القصصية وأفكارها. بيد ان روايته الجديدة لا تتضمن اتجاهاً راديكالياً، مع انها تكاد تكون مختلفة في طرحها،حيث يتخذ حطابها في تضاعيفه، منحى نقدياً لطروحات ما زالت سائدة في الثقافة العارفة والشعبية. أطفال بورقيبة هم أطفال الميتم الذي انشأه الزعيم التونسي ضمن مشاريع كثيرة تجاوزت التقاليد والعادات القديمة، وبينها عقدة اللقيط الذي يقصيه المجتمع بذنب لم يرتكبه. بورقيبة له حصة كبيرة في هذه الرواية قدحاً ومدحاً، إن شئنا أن نجعل مهمة الرواية تبسيطية، ولكن المؤلف وهو يمسك بثيمة اللقيط، يتشعب في مسارات لا تشمل التجربة التونسية وحدها، بل العربية بمجموعها. ما ينطوي عليه خطاب الرواية من أفكار، ليست هي الجديرة بالمعاينة فقط في هذا النوع من الروايات، بل ما يلفت النظر، عملية القلب في المواقع الروائية، بين الراوي والمروي عنه، والبطل وشبيهه، والبطولة وضديدها. أي أن محاولة المؤلف تناول الموضوع الروائي بما يشبه اللعب على مكوناته،حيث تبدأ بحكاية شهرزاد في الليالي العربية، ولا تنتهي في عملية تبادل الأدوار في مسرحية الحياة المتخيلة والحقيقية. شهرزاد في رواية بن عثمان خرساء وعمياء وطرشاء،بسبب حادث تعرضت له، ولكنها مستمعة قصص وهاجسة بمسار الحياة عبر الشخصيات التي يختلقها زوجها كل ليلة. ولا يعني استماعها بوجدانها للحكايات وتفاعلها معها، سوى في باب الظن الذي يتخذه السارد ذريعة كي يحاول تبديل المواقع في الليالي العربية. معظم أبطال الحكاية التي يرويها الزوج لشهرزاد، مثقفون كما هو الحال مع السارد نفسه، ولكنهم يتعرضون إلى مواقف تضع تجاربهم في الحياة تحت مختبر القلب والتحوير والتدوير. ومع ان الطابع الصحافي او لغة التحقيق الصحافي تبدو واضحة في مفاصل كثيرة من العمل، غير ان الأفكار التي تتعامل به الرواية على نحو تهكمي تأخذها الى مشارف الإنجاز الجدير بالمعاينة في النصوص التونسية. يقسّم المؤلف الرواية إلى تسع عشرة ليلة، ولياليه لها ثيمات فرعية ومجموعة من الأبطال بينهم يوسف عبد الناصر السارد الأول، وله نظراء في الشخصيات الأخرى، وخاصة بطل الحكاية هلال الأحد الذي يعيش معذبا بفكرة انه كان من أبناء الميتم الذين سُمّوا باسم بورقيبة، مع انه عاش في كنف عائلة تبنته، وكبر تحت رعاية أب وأمّ أحسنا تربيته، ولم يشعراه سوى بمحبة فائقة. بعد وفاة والد هلال بالتبني وهو رئيس مركز الشرطة والشخصية المتنفذة في البلدة،والمقلد لفكر بورقيبة والمنفذ لمهامه، يحضر أخو المتوفي السكير والمفلس، كي يطالب بالإرث،فيخبر الفتى بأصله. يكون القاريء على بينّة من منحدر ابن الخطيئة هذا، في استباق سردي، فهو يعود لخادمة تتورط مع مخدومها الفرنسي الذي تعشقه. يجبر الأبن أمه بالتبني على الاعتراف بالحقيقية، وتبدأ مسيرة المتاعب. فقد تهشم في داخل هلال اعتزازه بنفسه، وثقتة بمستقبله، كما انتابه فضول لمعرفة من أين أتى ومن الذي أنجبه. هذه الثيمة ستنسحب على مجموعة من الأبطال في الرواية،وبينهم يوسف عبد الناصر شبيه هلال أو توأمه الروائي او الفني، وقائد فلسطيني حل بتونس واستهوته شخصية بورقيبة. وكل هؤلاء يعانون من فصام روحي يدفعهم إلى مفارقات وتناشز في تصرفاتهم. يذهب هلال المجروح في " أصوله "، للالتحاق بالمقاومة الفلسطينية في أغوار الأردن، ويحاول الانتحار بعملية فدائية خارج موافقة التنظيم. يشتري السلاح من تاجر ببيروت فيكتشف التنظيم الأمر ويظنه خائنا أو عميلا، يتم اختطافه وتعذيبه على يد ضابط فلسطيني من فتح، فيعترف بقصة حياته التي جعلته يهرب إلى الموت. عندها يبوح الفلسطيني بأصله الذي عذبه هو الآخر، فهو لقيط لأم فلسطينية اغتصبها جندي اسرائيلي وتركها لقدرها.تبدأ صداقة ورفقة بين الأثنين، يخوضان عبرها نقاشات جريئة عن النضال والمواقف القومية. تلك الصدفة التي ترسم مسارات الرواية، تتيح للؤلف فرصة عرض ترابط الرموز في تنقّل مكون الثيمة، فاللقطاء وهم عادة أبناء لعدو، يشكلون عنصر الاختلاف،لأنهم نتاج تلاقح عرقين أو ثقافتين تتفاعلان ايجاباً وسلباً، وهذا الترميز الذي ينطوي على طابع تهكمي، يستوي تورية للشخصية الثقافية المركبة، فكل حداثتها تكتسي شعوراً بالذنب والغربة، الغربة عن ما اكتسبته من سمات نتاج هذا الالتقاء أو الافتراق في المسارات. بيد أن التداخل في الشخصيات يتخذ بعداً فنيا أيضاً، على ما يقوم عليه السرد من قدرة على تناسل الحكايات، أي الحكاية المولدة لحكاية أخرى، أو الحكاية التي تشبه نظيرتها. تبدأ الرواية بخطاب المثقف، الناقد اللساني والأكاديمي، وقد بلغ الستين، وهو يراود شاعرة أصغر عمراً من ابنته، التقاها صحبة صديقها الصحافي الشاب، وكي يبرر فعلته يبدأ تنظيره عن مفهوم الخيانة النسبي، تنتهي الليلة بمغامرة يحبكها في عقله لا على مسرح الحدث. تكون الحكاية الأولى التي ينقلها يوسف عبد الناصر إلى الزوجة الخرساء، مع أن الزوجة تعرف أن زوجها عاجز عن معاشرة النساء، غير أن الحكاية المنقولة عن سيرة رجل آخر تشي بأمنية تراوده أيضا. وهكذا تبدأ القصص بملامسة ثيمات الثقافة العربية أو حكاياتها الكبرى مع مفهوم التحديث والوطنية والجنس والخيانة والدين، والرعاع وتهذيبهم ودفعهم إلى طريق الشعوب المتقدمة، وستكون الحصة الأكبر في الثيمة الأخيرة للرئيس بورقيبة. سؤال الرواية حول بورقيبة يتخذ في الكثير من المواقع طابعاً ساخراً، ولكن الجد فيه يُختصر بعبارة وجيزة : هل كان الرجل زعيماً فذاً أم مهرجّاً كبيراً؟ فبورقيبة باني تونس الحديثة، الذي إمتلك قدرة تخطي حواجز اجتماعية ونفسية كبيرة، لم تشغله السياسة العربية ولا المحاور فيها، فقد كان ينظر إلى القادة العرب نظرة احتقار باعتبارهم قليلي ثقافة ولا يجيدون لغات أخرى كما هو حاله. جوبه بورقيبة بخصومة الشيوعيين واليسار التونسي بمجموعه، اضافة الى الفئات التقليدية، ولكنه لم يأخذ الأمر على محمل الجد لا في قراراته ولا في انطباعاته التي يمليها على الناس في خطبه المتلفزة. حسب السارد ، كان بورقيبة " يريد دولة عصرية وشعبا محتفلا في المكاتب والمعامل والمزارع والمراقص والساحات العامة يختلط فيه الرجال المتحضّرون بالنساء المتحضّرات والجميع يلبس بدلات عصرية ويتكلم لغة فرنسية. باختصار، كان يتوق الى شعب آخر ، لم يعرف كيف يستورده من وراء البحار، فاضطر لإعادة خلق الشعب الذي بين يديه ليصير أفضل وفي مستوى آمال وطموحات المجاهد الاكبر" يمكن أن نستنتج من هذه الفقرة، مقدار الطبيعية او الواقعية " الجدية" في لغة السارد، ولكن الذي يقرأ الرواية سيكتشف مقدار الأسلبة الكامنة وراء هذه التقريرية الظاهرة، فهناك محاكاة ساخرة للتاريخ المروي في لغة المثقفين. وهذا لايعني أن السخرية هي النفي أو النقض، بل هي طريقة بين طرق كثيرة لدحض السرديات التي تدعي الحقيقية الواحدة. لعل من بين أجزاء الرواية الطريفة، مقتطفات عن علاقة بورقيبة مع الجماهير عبر برنامجه التوجيهي المتلفز، ولا يمكن إدراك الحقيقية في الواقعة المتحولة إلى مرويات شعبية، وبالتالي إلى مادة قصصية تجمع الجد إلى الهزل : " كانت مواهب الرئيس المسرحية تثير هلع الممثلين المحترفين وتجعل أهل الفن يتوخون الحذر والجدية في أعمالهم" وستترد في ذاكرة القراءة، أصداء بعيدة لحكاية الدكتاتور الساخرة في خريف البطريرك لماركيز، كما الحال مع مشاهد القذافي وبورقيبة في الرواية. مسرحية تبادل الأماكن في هذه الرواية، بين الواقعة وفكاهتها الكامنة في اعادة الصياغة، لا تقتصر على الرئيس، بل تشمل كل شخصيات الرواية، بما فيها شهرزاد الممثلة المصابة بالصرع وزوجها يوسف الذي لا يستوي الأمر له مع زوجته إلا بدور تمثيلي يؤديه كي يتخلص من عيه. قال أحد أحد أبطال الرواية انه يريد خلق قصة تفتقد إلى اليقين، مثل قصص الحياة التي تتحول على يد كاتب هذه الرواية إلى حكايات مجازية تزاحم فيها الأقنعة الوجوه الحقيقية للأفكار.