يطل العيد دائماً عبر نافذة الماضي ، على الرغم من أنه احتفاء بالحاضر وحكايته ، ويصر على أن يأتي تصاعدياً من الطفولة إلى فضاء العمر ، حتى لدى الصغار يشكّل حركة في الماضي ، هل لأنه يحمل صفة ومسمّى العودة والإعادة والعود ؟.. كان هذا السؤال حرّك أصابعه في ذهني وأنا أتجوّل في واحات وممرات وبيوت العيد الساكنة في بلاد العمر المتداخل حدودها والمسكونة بكم هائل من الصور والتواريخ والعبارات والحكايات البريئة ، وقلت أيضاً وأنا أتداخل مع سؤالي، ربما يكون السبب في ذلك أن الأفراح والأعياد هي حالة من التذكير بالفرح الماضي والاستعداد للفرح الذي سيأتي ، ولكنني استدركت حالتي عاجلاً وقلت أيضاً: ما الذي يدفعنا إلى إدخال حياتنا إلى جحيم المنطق وتمريرها عبر العقل ، الذي هو أداة قد تعيق الفرح وتسبب توتّراً دائما لعلاقتنا بمشاعرنا، علي أن أجيب على هذه التساؤلات من خلال القلب الذي هو أداة الشعور الحقيقية، وأترك العيد يتشّكل في ذهني كأسرار لم تكتشف وعوالم لم تسبر اللغة غورها، لأن من جمال الأشياء أن تكون غامضة وغائبة قليلاً، أن تكون بلا حد واضح وأن لا يستطيع التفكير المنطقي أن يصل لمعنى لها ، حينها تكون حقيقية ، خاصة الأشياء المرتبطة بالشعور والجوانب النفسية لدينا، والفرح لا يمكن أن يفسّر كما هو الحزن، ومن هنا يمكن أن أقول لنفسي أيضاً، أن الشعور بالعيد لا يمكن أن يفسّر كيف يمكن أن تعيشه، وتتكوّن من خلاله، لكنّك لا تستطيع أن تقبض عليه ؛ فالقبض على معاني ودلالات الأشياء إنهاء لها وقتلاً .. في هذه اللحظة تركت أصابعي وقلمي ولغتي تتسرب عبر ممرات العيد الواسعة وتتجوّل بلا حارس أو رقيب أو مفسّر ، بعد أن أدركت مدى حماقتنا ونحن نبحث عن أسباب لأفراحنا وأحزاننا ، تركت كل شيء يرتسم في فضاء العيد خالياً من هذه العصابية الحادة التي تدفعنا الحياة إلى العيش بها .. فتذوّقت الحلوى بطعم مختلف مع الصغار.. تشابكت مع ثيابهم وهي ترتجف عبر هواء العيد الراقص بحيوية.. استنشقت بخور الكبار برؤية الطفل الذي كان بريئاً لأن لم يفكّر يوما بالمستقبل.. قبلّت الأبواب المشرعة لصباح حالم وأنيق .. تلوح من خلاله القلوب بأشمغة مدعوكة بالعطر، وعبارات تتطاير من رؤوسها فوانيس الحب، تشرب لهفة الحياة إلى العودة للمكان الأول والبيت الذي عانقت فيه الأجيال ملامح الفرح سوياً.. كان هذا في رحلتي مع الصغار ، ولكنني وحينما تجوّلت في ردهات العمر لدى الكبار وجدت أنهم مهووسون بالحزن وكان تغنيهم بالعيد مصدر ألم لهم ومحاولة لربط الأحداث والمآسي بلحظات العيد، فعرفت أن العيد هو عودة للأصل الذي هو البراءة في أنفسنا التي لم تلوّثها حالات التفكير بالمستقبل، فلم أجد ما يبهج في كل القصائد التي كتبت عن العيد، لأكتشف أن الشعراء مهووسون الحزن أيضاً !!