ربما بدا العنوان حاوياً بعداً جمالياً في رواية «ساحل الغواية» للكاتب المصري محمد رفيع لا يمكن اختزاله في علاقة الإضافة المشكلة لبنيته، بل بدت أكثر في العنوان الفرعي الدال على غلاف الرواية «في الصحراء موج أقل»، وبما حواه من نزوع شعري لافت، قد يدفع به إلى إمكانية تصدر العنوان. غير أن أفق الغواية المحكوم به النص، تجلى أكثر في المفتتح الدال المأخوذ من الشاعر محمود درويش، والذي يشبه التقديمة الدرامية للرواية: «وفي الصحراء قال الغيب لي: اكتب/ فقلت: على السراب كتابة أخرى/ فقال: اكتب ليخضر السراب/ فقلت: ينقصني الغياب/ وقلت: لم أتعلم الكلمات بعد/ فقال لي: اكتب لتعرفها/ وتعرف أين كنت/ وأين أنت/ وكيف جئت/ ومن تكون غداً/ ضع اسمك في يدي واكتب/ لتعرف من أنا / واذهب غماماً في المدى...» (مفتتح ص 7). ثلاثة فصول سردية تتلو المفتتح، تحوي جميعها إشارات زمانية الطابع، موزعة على سبعة عشر مقطعاً، يحتل القسم الثاني منها (الآن) حيزاً أكبر داخل المتن السردي فيها (ثلاثة عشر مقطعاً تحديداً)، غير أن هذا التقسيم الزمني التسلسلي للفصول (قبل أعوام – الآن – غداً) بدا حاملاً في جوهره لعباً تقنياً دالاً، إنه تقسيم مخاتل، مسكون بالتداخلات الزمنية بين ما كان، وما هو كائن، تداخلات زمنية تواترت بتواتر الأمكنة، وتنوعها بين البحر والصحراء، ففي (الآن) نرى حكياً عن الماضي، وتفعيلاً لآلية التذكر، ثم عودة – من جديد – إلى خط القص الرئيسي، والمشكل لذلك (الآن)، بصفته تعبيراً عن اللحظة الحاضرة المحكي عنها، هذا ما نراه مثلاً في صفحتي 68، 69 حين يستعيد الراوي الرئيسي حكاية العشيقين (مدينة وحبيبها)، وتلك الصحراء التي حوت جسديهما، وباتت أكثر تشوقاً لاستقبال غيرهما: «بدا أنهما على استعداد لأن يفترسا أي وحش وهما معاً. ظلا يلعبان في البرية كطفلين، حتى تذكرا أن الموت آتٍ لهما لا محالة. ولم يبق غير سويعات قليلة من الفرح. فقررا أن ينتصرا للفرح الأخير على الرعب، وحتى على الموت ذاته. خلعا ملابسهما كما خلعهما العالم، ومع كل قطعة يخلعانها ينتصران على القبح، ويستقبلان فرحهما الجسدي، حتى إذا تخلصا من أثقالهما، عادا إلى ذاتيهما». بناء دائري بدءاً من الاستهلال السردي المسكون بمأساة «سلمى» - إحدى الشخصيات المركزية - وصولاً إلى نهاية النص المشغول بها، ثمة بناء دائري يكتنف الرواية، تصبح فيه «سلمى» البداية والختام، الحقيقة والسراب، وعبر هذا البناء الدائري، يصارع الشخوص قوى محملة باليقين، في عالم مملوء بالأسئلة، يواجهون عرفاً ثقيلاً، وسطوة مفزعة لمواضعات تقليدية حكمت على «سلمى» بالفراق، وأسلمت «مدينة» إلى الصحراء، في سياق هادر بالموروثات الشعبية الخاصة بالمكان، ذلك الذي يجيد محمد رفيع الإفصاح عن جوهره الثري جيداً، بصفته - بالأساس - فضاء نفسياً وسيعاً لانفعالات البشر وهواجسهم في لحظات مأزومة ومرتبكة من حيواتهم. للسرد هنا منطقه الجمالي الخاص المتذرع بلوازم المكان، ومظاهره، هذا المكان المدهش (الغردقة/ البحر الأحمر) الحاوي لنبوءة العرافات، وأعراف مجلس الصيادين، وبما يتيح إمكانية تقديم عالم يتسم بالاختلاف والمغايرة، يعد امتداداً على نحو أكثر عمقاً واتساعاً لعالم الكاتب الذي قدَّمه من قبل في مجموعتيه القصصيتين (ابن بحر/ أبهة الماء) غير أنه الآن يرى العالم في إطاره الكلي، فيقرر طرح الجوهري من الأشياء في أمكنة تسكنها الموروثات، وتحركها. يوظف الكاتب الجمل المفتاحية توظيفاً دالاً، كأن تصبح جملة العرافة التي كانت سبباً في حتفها مؤشراً على حضور عوالم جديدة تطرح داخل الرواية، «ارحموا اللي ضاجع الصبية في «العرا والشمس» ظللوا عليه» (ص20)؛ لتحيلنا إلى حكاية (مدينة وعشيقها) اللذين تُركا في الصحراء عقاباً لهما، فقررا أن يلتصقا حتى الموت. في «ساحل الغواية» تتبدى ثنائية (الصحراء/ البحر)، حيث يظهر البحر بصفته موطناً للحكمة، على حوافه يعقد مجلس الصيادين، كما تبدو الصحراء مكاناً للوحشة، يستقبل الملعونين من أقوامهم، غير أن الصحراء المقفرة لم تكن كذلك مع «مهدي» الطامح في وحي من السماء، أو «صالح» الذي يصارع سرابه الخاص، وحده «حجاج» الذي يعرف أسرارها، ليس لكونه يقتفي الأثر، ولكن لأنه دفع ثمناً لذلك، وفي كلٍّ تتراوح حركة الشخوص في النص بين عالمي البحر والصحراء، لا في مقابلة بين عالمين متناقضين، ولكن في فضاء آخر مغاير، يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل، وأوهام الشخوص بأمانيهم، فضاء تخلقه الغواية وتشكله، «غواية» يبدو فيها استكشاف الجسد مقدمة لاستكشاف الروح، في ظل عالم مسكون بسلطة القمع والقهر، محاصر بمستر «ريد»، وأعوانه، يلقي فيه الجيش الإنكليزي بظله الثقيل (تدور الرواية في زمن الاحتلال البريطاني مصرَ) على مجتمع مكبل في أصل ماهيته، من ثم لم يكن من مهرب سوى التلاقي المؤجل بين «مهدي» و «سلمى» والذي يتشارك فيه الكل، ربما إحساساً بوطأة ما حدث في تحول درامي مفاجئ في نهاية الرواية! واللافت في هذا جميعه أننا أمام رواية تشف وتقول في آن، ليس اللعب الزمني، والوعي بالمكان، هما كل شيء فيها، بل هناك – بالأساس – محاولة لصنع عالم يتسم بحيوية الاختلاف، عبر لغة حمالة لشحنات فكرية وعاطفية دالة، وتوظيف جيد للموروث الشعبي وبناء عليه، مع حضور بارز لتناصات عدة طيلة الرواية (الغار/ مريم)، وبما يجعلنا – في نهاية المطاف – أمام رواية متناغمة بنائياً، مميزة ومختلفة في آن.