بعد روايتين أخيرتين هما «جوع»، و «أسوار»، يضيف الكاتب محمد البساطي إلى مشروعه السردي البالغ الخصوصية والمتمثل في أربع عشرة رواية، وتسع مجموعات قصصية، عملاً قصصياً يملك فرادته الجمالية والرؤيوية المدهشة وهو بعنوان «نوافذ صغيرة»، المجموعة القصصية الصادرة حديثاً عن دار «أخبار اليوم»، في القاهرة. فعبرها يحاول شق الحجب بعد أن أعيت أبطاله الحاجة في «جوع»، وحاصرتهم زنازين العقل والروح في «أسوار». غير أنه هنا في «نوافذ صغيرة» لا يقدم طرحاً إبداعياً يدعي القدرة على امتلاك الأشياء، يدخله في زمرة مُلاك الحقيقة الزائفين، لكنه يتحرك وفق المنطق الجمالي الخاص لمجموعته المكونة من أربع عشرة قصة يتسم أبطالها بقدر عارم من «الحقيقة»، التي تصير هنا علامة على صدق فني – وفق المصطلح الكلاسيكي – قادر على إيجاد صيغة من «الألفة الكاذبة» بين المتلقي والنص. فالدهشة تطل برأسها خالقة قدراً أعمق من النفاذ إلى سيكولوجية المتلقي، عبر أسلوب اختار البساطي أن يحمل نَفَسَه الخاص وطرائقه المميزة في السرد وعوالمه التي تخصه هو، وبذا يصبح الأسلوب هنا جوهراً لا محض طريقة أدائية في تقديم مادة السرد. يمثل سؤال الحرية هاجساً مركزياً في «نوافذ صغيرة»، فالنوافذ التي تفتح – على المستوى الواقعي – هي لمساجين يتوقون إلى الحرية، وعلى المستوى المجازي هي أشواق المجموع في سعيه الحثيث نحو الانعتاق من أسر القيود والأغلال. في القصة المركزية «نوافذ صغيرة» التي تحمل المجموعة اسمها، يضعنا الكاتب أمام الحدث القصصي مباشرة. فلا حاجة بنا إلى مقدمات ذات طابع مسهب تعوق إمكانات القص، وتفقده أقوى ما فيه «الاختزال»، و «التكثيف». فثمة شلل في حركة المرور جراء عبور أحد المسؤولين الكبار، وقد أفضى هذا إلى نزول الراوي / البطل من الحافلة التي كان يستقلها، مقرراً الذهاب إلى عمله سيراً على الأقدام، فيجد عربات الشرطة الزرقاء المحملة بالمساجين واقفة، وعبر «النوافذ الصغيرة» تتشكل مساحة إنسانية ضافية بين الراوي / البطل، والمساجين، فيمنحهم خلسة علبة سجائر على رغم التضييق الخانق عليهم من قبل الحارس (الصول) المرافق العربة. ثمة خصيصة أسلوبية تتعلق بالاستهلال السردي في نصوص محمد البساطي، فهو لا يبدأ بدايات تقليدية، تتوخى الجمل الطويلة المسكونة أحياناً بزوائد مجانية، لكنه يعرف الطريق إلى قارئه جيداً، فيصل إليه عبر أقصر الطرق، وبأكثر العبارات إيجازاً. فالأسلوب لديه يقترب كثيراً مما طرحه ميشيل ريفاتير حول مفهوم «الأسلوب» بصفته قوة ضاغطة تتسلط على حساسية القارئ، ومن ثم فهي لها قدرة النفاذ إلى سيكولوجيته. وهذا ما نراه مثلاً في مستهل قصته «سعاد»، التي يخرج فيها من حيز الوصف التقليدي إلى فضاء أكثر رحابة. فالابن الأكبر للعائلة «عبد المجيد» ورث عن أبيه ملامح الوجه، الصلعة، الطبع الهادئ، والتهاب الكبد، وتأتي عبارة «والتهاب الكبد» مفاجئة للمتلقي وصادمة له في آن، بل وقادرة أيضاً على فتح مدارات التأويل بالنسبة له، ويصبح العالم القصصي هنا مبنياً على مثل هذه التفصيلات الصغيرة، بحيث يظل «عبد المجيد» مطارداً لحلمي «الشفاء» و «الإنجاب». تبدو الجمل في قصة «حكاية قديمة» أشبه بالطرق المؤثر، والحامل في الوقت نفسه شحنات فكرية وعاطفية دالة، حيث يضعنا الكاتب رأساً أمام الحدث المركزي في قصته. ثمة صديق للراوي يغالب الموت، لكنه لا يلبث أن يسأل عن المرأة التي يحبها، مثلما هي دائمة السؤال عنه، لتتكشف لنا ملامح علاقة إنسانية بينهما، فيلتقط القاص هذا الخيط الإنساني الرفيع ليشكل معالم قصته منطلقاً من لحظة مأزومة «لحظة المرض لأحد شخوصه المركزيين»، إلى أفق ثري أكثر رحابة. تنفتح قصة «جيران» على تقنيات السينما، مستفيدة من الحضور الواعد للفنون البصرية في فضاء النص السردي، لترى توظيفاً دالاً لآليات كتابة السيناريو. إن الاحتفاء بالمكان ليس احتفاء بالعناصر المادية المُشَكّلة له، لكنه يشتمل بالأساس على الوعي الحاد بحركية البشر داخله. ولذا فلا مكان فارغاً هنا، ولكنه الحيز الجغرافي المسكون بانفعالات الناس وهواجسهم، فالحجرات الثلاث التي يسكنها شخوص القصة الفوَّال، الخباز، عامل السكة الحديد مع زوجاتهم، تتشابه على أصحابها، إلا أن الكاتب يخلق منطقه الخاص في طريقة تقديمها، بل وفي ترتيب هذا التقديم، بحيث يؤثر وصف حجرة عامل السكة الحديد، لأنه محل الفعل القصصي ومكانه. فالعامل يتأخر كثيراً خارج البيت، بينما تترك زوجته باب الحجرة موارباً، لأن ارتفاع «الترباس/القُفل» أطول من الابن الصغير، والذي يتبول على نفسه كثيراً في ليالي الشتاء، جراء إغلاق الباب أحياناً، ثم يدفع الكاتب بالحدث السردي إلى الأمام، حين يدخل (الخباز) وهو مسطول إلى غرفة جاره، لتحتدم الأزمة المصنوعة بعناية فائقة، ثم سرعان ما تعاود الانفراج، ليعدل العامل من وضع «الترباس / القُفل» ولكن بعد أن أصبح ثمة قُفل آخر – معنوي هذه المرة – يَسِمُ العلاقة بينه وبين امرأته. في «الغرفة المجاورة» يعد الراوي أحد شخوص القصة، وليس خارجاً عنها، كما في «جيران»، أما الغرفة التي تجاوره، فهي لامرأة بائسة (أمينة) تعيش مع ولدها الصغير، بعد أن تركها زوجها منذ زمن، جراء شظف العيش، ومن ثم تقرر أن تعمل خادمة في البيوت، وهذا ما يحزن ابنها كثيراً. ويبقى هنا ولع الكاتب بالتفصيلات الدقيقة، وقدرته على القبض على اللحظة القصصية برهافة شديدة، من دون افتعال أو استجداء ساذج للعواطف الإنسانية، بل تجلية شفيفة لواقع خانق، يعبر عنها جمالياً بشحوب القمر في نهاية القصة، وبدوران الحياة في أفقها الاعتيادي الرتيب. يكسر الكاتب أفق التوقع لدى قارئه في «هي وزوجها»، حيث تشي الإرهاصات التي حملتها بداية القصة، بأن ثمة علاقة حسية قائمة بين الجارة التي ترتدي (الروب الشفاف) وجارها (الراوي) الذي تنادي عليه همساً في آخر الليل. غير أن منطق الحكي يذهب بنا إلى منطقة مغايرة، حيث نكتشف أن ثمة زوجاً مريضاً قابعاً في المكان القصصي، «شقة فوق السطوح»، يحتاج الى مساعدة هذا الجار. ولعل اللافت هنا هو قدرة الكاتب على رصد المكنون داخل شخوصه، مثل إشارته الدالة إلى العينين اليقظتين دوماً لهذا الزوج المريض، والمتجهتين طيلة الوقت إلى زوجته وجاره: «جسده ممدد في الفراش بلا حراك، وفمه ملتو، ورعشة بشفتيه، عيناه فقط يقظتان، يصوبهما نحوي». يعتمد الكاتب آلية السخرية في قصته «تأهب» ويتجلى ذلك من خلال التوصيفات الدالة لمشاهد حياتية تحكي طفولة الرواي / البطل، بدءاً من مولده في ظل ظروف استثنائية تسقط فيها «القابلة» على الأرض المبللة، بالمطر مرات عدة وهي في طريقها إلى منزله وحينما تحدث الولادة، ويخرج إلى العالم، إذا هي ترحل عنه، لتصبح المفارقة الساخرة irony هنا معمقة للرؤية السردية ومضيفة إليها. يمثل العنوان في قصة «إن كنت تحبني» مجتزأ من مقطع سردي تطلب فيه «نور» الفتاة التي فاتها قطار الزواج – من الراوي (الطفل الصغير) أن يصعد معها إلى شقة أمها سليطة اللسان، كي تراه قبل الموافقة على ذهابه مع ابنتها في خروجها ليلاً. وتجدر الإشارة هنا إلى التداخل الدال بين خط القص الرئيس، والمونولوج الداخلي الذي يعتمل في سيكولوجية البطل: «واقتربت. أشارت إلى مقعد بجوارها. عيناها في عيني، أهرب منهما وأعود إليهما. أهز قدمي مخفياً ما أحسسته من اضطراب. ولم نرجس؟ كانت أكثرهن جمالاً تلبس الجيبة القصيرة والبلوزة الضيقة، وتتمايل خفيفاً في مشيتها، ألمح العيون أثناء سيرنا تلتفت اليها، في عودتنا وقبل أن نصعد السلم تنحني وتقبلني خطفاً في فمي تماماً كقبلتها لخطيبها». تتحقق الرؤية السردية في قصة «اللوحة» عبر تواشج صوتي الراوي والشخصية المركزية الحاج فوزي، حيث تكمل الشخصية ما بدأه الراوي في مستهل القصة. تتحرك شخوص المجموعة في عوالم ضيقة (غرف فوق الأسطح، شقق ضغيرة، زنازين ومعتقلات / عربات شرطة) تسيّر حياتهم الضرورة الحياتية المعاشة. وعلى رغم المحيط المادي المحدود الذي يتواجدون فيه، إلا أنهم يحيون قدراً من العزلة والاغتراب. فهم إما منفصلون عن البنية الاجتماعية المحيطة بهم، وهذا ما يتجلى من خلال شخوص، مثل الخباز في قصة «جيران» والولد الصغير في قصة «الغرفة المجاورة» والرجل المريض في «هي وزوجها»، أو أنهم أخفقوا في تحقيق ما طمحوا إليه، ومن ثم صاروا مغتربين عن ذواتهم، وهذا ما نراه من خلال شخوص: الزوج الهارب في قصة «الغرفة المجاورة»، «سامية بنت خليل» التي انتحرت في قصة «زواج» ولكن يبقى دوماً ثمة محاولة لتحطيم أسوار العزلة هذه عبر الإصرار على تحقيق مساحة إنسانية – حتى ولو بدت ضئيلة، ولعل مشهد التواصل بين الراوي والمساجين في «نوافذ صغيرة» يشي بهذا أو يدل عليه.