تتيح التكنولوجيا المتوافرة في عالم اليوم، طرقاً متعددة للتواصل الفعّال بين أفراد العائلة الواحدة الذين بات يمكنهم البقاء على اتصال دائم ببضعهم بعضاً أينما كانوا. وقد جاءت هذه التكنولوجيا، بلا شك، كهبة من السماء لكثيرين من الناس الذين بات يمكنهم وبتكلفة بسيطة جداً، الاتصال لأوقات طويلة، صوتاً وصورة، بأقربائهم وأفراد عائلاتهم في بلدان بعيدة. لكن التأثير الحقيقي لهذه التكنولوجيا في التواصل بين أفراد العائلة الواحدة في بريطانيا ما زال غير واضح المعالم في شكل دقيق حتى الآن. وفي انتظار ظهور دراسات تُحلل هذه الظاهرة في شكل علمي، يبدو أكيداً أن البريطانيين من أكثر شعوب الأرض حاجة إلى ما يشجّع اتصالهم في ما بينهم. فأهل الحي الواحد نادراً ما يتعارفون. ولا تزال نسبة كبيرة من الموظفين الذين يستخدمون قطارات الأنفاق إلى مقر عملهم ذهاباً وإياباً وفي تنقلاتهم، تتأبط صحيفة أو كتاباً مطبوعاً أو إلكترونياً (ديجيتال)، ما يجعل هؤلاء يبدون في عالم آخر تماماً حتى عن الجالسين بجانبهم على مقعد القطار نفسه. ومن الظاهر أن أفراد العائلة البريطانية الواحدة لا يبدون من النوع الذي يتبادل الأحاديث إلّا في ما ندر، وهو ما يثير المخاوف من أن تكنولوجيا التواصل العصري - من «فايسبوك» إلى «تويتر» و «ماي سبيس»، مروراً بالبريد الإلكتروني الذي يبدو أنه أصبح موضة قديمة لكثيرين - قد تزيد «التباعد» الفعلي بين أفراد العائلة حتى لو بدت أنها تقرّب بينهم في العالم المتخيّل (virtual world). وعلى رغم أن قدوم عصر شبكات التواصل الاجتماعي قد يزيل بعض العقبات التي تعترض الاتصال بين أفراد العائلة الواحدة، فإنه يكرّس في كثير من الأحيان واقع «البعد» الفعلي حتى بين الإخوة والأخوات وبين هؤلاء وبين أمهاتهم وآبائهم، بحيث يصبح الاتصال الوحيد بينهم مجرد تعليق على صورة أو رسالة خاصة قصيرة بالبريد الإلكتروني. وأظهرت دراسة لموقع «ماتشور تايمز» (http://www.maturetimes.co.uk) المختص بالرجال والنساء الذين تقدموا في العمر (من الخمسينات وما فوق) أن أفراد العائلة الواحدة في بريطانيا لا يتواصلون في الحقيقة إلّا نادراً. وأظهر استطلاع أجري العام الماضي، وشمل ثلاثة آلاف بريطاني تتجاوز أعمارهم 55 سنة، أن أكثر من واحد من بين كل عشرة بريطانيين لم ير أهله سوى مرة خلال سنة بأكملها. كما أظهر التقرير أن واحداً تقريباً من أصل كل 20 بريطانياً يتكلّم مع أهله عبر الهاتف مرة واحدة فقط كل شهرين أو ثلاثة شهور، على رغم أن أكثر من نصف الذين تم استفتاؤهم قالوا إنهم يشعرون بأن عليهم رؤية أهلهم في شكل أكثر انتظاماً. كما أعرب الثلث عن شعور بالذنب لعدم رؤية أهلهم مرات أكثر، في حين قال 47 في المئة إنهم قلقون لتقدم أهلهم في السن وهم بعيدون عنهم. ويُظهر التقرير أيضاً أن أربعة من بين كل عشرة بريطانيين يبلغون 55 سنة وما فوق يتمنون لو أن أولادهم كانوا على اتصال بهم لوقت أكبر، كاشفين في الوقت ذاته أنهم يتصلون بأهلهم أكثر مما يتصل أولادهم بهم. ويوضح ناطق باسم «ماتشور تايمز» في شرحه نتائجَ الدراسة أن «الناس باتوا أكثر استعجالاً من أي وقت في السابق وباتوا يعيشون بعيدين أكثر من منازلهم، الأمر الذي يعني أن كثيرين يرون أهلهم أقل (مما يستحقون) وتؤكد نتائج الدراسة هذه الخلاصة، إذ تكشف أن 45 في المئة من المشاركين في الاستطلاع شرحوا أن سبب قلة اتصالهم بأهلهم مرتبط بواقع أنهم «مشغولون»، في حين قال 29 في المئة إن اللوم يقع على التزاماتهم في العمل. وواقع الأمر، يؤكد أن التكنولوجيا المتوافرة اليوم - على رغم تسهيلها التواصل بين الناس - تساعد في الوقت نفسه على إقامة «حاجز» يفصلهم، كما في حال أفراد العائلة الواحدة. فالتلفزيون، مثلاً، يمكن أن يستغرق ساعات من وقتهم كل مساء، بحيث لا يتجاوز «الاتصال» بين الرجل وزوجته أو بين الأهل وأبنائهم سوى وجودهم في غرفة واحدة يتابعون بصمت ما تعرضه الشاشة من أحداث أمامهم. لذلك، يقترح علماء نفس أن يسعى الأهل، مثلاً، إلى طرح أسئلة على أولادهم بعد انتهاء الفيلم أو المسلسل لمعرفة آرائهم في قصته وأبطاله وذلك بهدف تشجيع «الاتصال اللغوي» بين أفراد العائلة. لن تختفي التكنولوجيا بالتأكيد، كما أن العائلة لن تختفي بدورها. كلاهما يتغيّر، لكن المسؤولية الأساسية تقع، على الأرجح، على الأهل أنفسهم. فهم من يمكنه أن يحدد مدى تأثير التكنولوجيا، سلباً أو إيجاباً، في علاقتهم بأبنائهم وبناتهم، وذلك من خلال طريقة مراقبتهم وتحكمهم بوسائل التواصل التكنولوجي بين أفراد العائلة.