أكد الناقد محمد العباس أن المثقفين السعوديين عندهم حالة من التعالي على القيمة الغنائية، حين يدّعون تماهيهم مع أغاني فيروز وفنانين عرب آخرين، فيما تجد «أدراج» سياراتهم ملأى بأشرطة محلية لفنانين سعوديين، بل وشعبية أيضاً. جاء ذلك في محاضرة قدم فيها العباس قراءة في «الأنساق الثقافية في الظاهرة الغنائية: خالد عبدالرحمن أنموذجاً»، وأدارها الإعلامي فهد الغويري في افتتاح نشاطات لجنة الفنون الشعبية والموسيقية في فرع جمعية الثقافة والفنون بالرياض أخيراً، وسط حضور نوعي من المهتمين بالغناء ومن المثقفين والأدباء، كان بدأها العباس بأن هناك سراً في شخصية خالد عبدالرحمن، فما يغنيه يوافق شكل حياته، ويعكس مزاجه الشخصي، ما جعله قريباً من الجمهور، وبالتالي تحول لحالة ثقافية جديرة بالتأمل تلتحم الذات بموضوعها، فلا تنفصل عن الصورة التي يقدم بها نفسه في المشهد الحياتي، فإضافة إلى ما يشكله كظاهرة فنية جاذبة عند شريحة عريضة، يمثل حالة اجتماعية مثيرة للجدل تبدو ظاهرة في صوره وكليباته، ومنجزه الغنائي، ويختزن ديوانه قصائد معبرة للفئات المعذبة عاطفياً، وتقدمه قدرته على تحويل الإشاعات لمتواليات غنائية أنه منتم للناس. وخلص العباس إلى أن خالد عبدالرحمن يقدم نفسه كمنتج ثقافي، لإنسان يقترح أسلوب حياة راقية، وليس مجرد فنان، مثبتاً أن تشكيلته الصوتية والبصرية بما فيها من حس محافظة على الأصالة، ومحافظة على القالب، تعد ذكاءً، فصوتياً يرجع للجذور، وعبر صور بصرية تؤصل مواقفه الحياتية البسيطة وغير المتكلفة من صور الصيد والقنص، والتي تظهره في حالة استرخاء في بيئته الصحراوية وفي جلساته، مؤكداً أنه على هذا الأساس تجاوز مفهوم وشكل الفنان إلى الإنسان الذي يعيش مع الناس ويتفاعل معهم، بخلاف فنانين يقدمون وصلاتهم ثم يختفون ولا يكاد يعرف عنهم شيء، أو آخرين شغلتهم مطاردة (النيولوك) أو متكلفين في حياتهم. سبق المحاضرة عرض لفيلم قصير جمع ألحان وكلمات وصور لخالد عبدالرحمن تمثل محطات رحلته الغنائية، قبل أن يمسك العباس بزمام الحديث، مفتتحاً أنه فنان يختلف به وعليه، وأنه كان وما زال حديث مجالس ومقاهٍ حتى يكاد يكون قد دخل المستوى الإشكالي، «ما دعاني لمحاولة تفكيك هذه الحالة الفريدة والخاصة ثقافياً»، بدأها بتعريفه أنه فنان عبر عن الإنسان المعذب عاطفياً، ليس بشكل عادي، بل بلون خاص وبإيقاعات لحنية ناعمة فيها من النواح والتشكي ما يتناسب وشخصيته، وهو إذ يغني منفرداً يتجلى أكثر، إذ لا يتوافق حضوره مع كل ما يوحي بالأوركسترالية. وتابع العباس في تفكيك الظاهرة، بدءاً من لقبه «مخاوي الليل» المقدود أصلاً من أغنية يردد فيها مقطعاً أثيراً على نفسه، مضفياً على ماهيته الإنسانية حالة من الرمزية والتجلّي، وكأنما أراد أن يؤدي وظيفة معينة، استطاع مع منظومته الصوتية والصورية حيازة شعبية وأن تتابع أخباره، ويكون موجوداً في قلب الجماهير، ماسحاً الفارق بين الإنسان والفنان. وأضاف: «إن اعتناءه بتثبيت الصورة الذهنية، فيه الكثير من القصدية، فهو يشير عبر أغانيه إلى أزمة الفرد التائه والأعزل والمقصي اجتماعياً، والغارق في الأحزان المسكون بهشاشة عاطفية جارحة، متنازلاً عن كرنفال الحياة الجمعي، وقابضاً على أحاسيسه، ملتصقاً بآلة العود التي تشكل طوق نجاته من الأحزان الثقيلة، ومبرر بقاءه ودليله الحسّي على الرقي الفني وقدرته على إثارة العواطف والتطريب في آن. وأوضح العباس أنه بهذه الصورة أصبح «مودلاً» قابلاً للتسويق، مكرساً قيم مستحدثة للحياة، مثل تأبط بنادق الصيد والإمساك بالطرائد، والاسترخاء المسائي حول موقد النار، ليوحي بالفروسية، ويعيد إنتاج الكائن الصحراوي، وعلى رغم الهدوء الذي تتسم به شخصيته والتي يُنظر إليها أحياناً كشكل من أشكال الخمول، إلا أنه استطاع تحويلها إلى طاقة رومانسية ووظف أغانيه الحزينة كأداة لتطهير العواطف في الوقت الذي أرادها الجمهور جرعة دوائية، فحسبت نقطة تسجل له لا عليه، محولاً شعور الحزن لحالة جيدة. وهو ما دعا المتابعون له من الشباب ترى في تقليده فرصة لإعفاء نفسها من خلق شخصيهم، فقدّم لهم نموذجاً جاهزاً، جعل كثيرين يقولون: هذا هو الشكل الذي نريد أن نكونه. مضيفاً أنه يقدم صورة البدوي الأنيق وفكرة النموذج الجاهز للاقتداء، ما يمثّل دعوة صريحة إلى طريقة العيش التي يتمتع بها ويقترحها على معجبيه. وأكد العباس أن ما يقدمه من أغانٍ شعبية تختلف عن الأغاني الشعبية الأخرى، فخالد وسّع الشريحة ووصلت لمساحات أعرض، ولم يخرج من الأصالة، وعلى رغم أنه يؤخذ عليه أنه يؤديها بشكل غريزي وفطري، فلا يلجأ للتعقيد، لكنه يصل بشكل بسيط للمتلقي. مضيفاً أن عنده إحساس لتثمين «الشعبي» وإعطائه قيمة، وهذا التثمين يعادل الأصالة والبراءة والانغراس في الجذور، ولأنه مبتكر ألحان، فهو يوصل رسالة مفادها بأنه يقضي وقتاً كبيراً في الصحراء، وكأنما يريد أن يقول أنا أذهب للصحراء، لأنقل لكم قيمها. وحفل الشق الثاني للمحاضرة بمشاركات قوية من جمهور خالد، قدموا فيها قراءات موازية أضافت لقراءة العباس، مؤكدةً قدرة النقد الثقافي على دراسة الظواهر، وكشفوا فيها أنه قدّم مقامات وثقها المعهد العالي للفنون، مطالبين بتكريسه كقيمة ثقافية، وبالغ بعضهم بأنه يمثل «الهوية السعودية»، وهو ما حدا بالعباس ليصف المداخلات بأنها إثبات للظاهرة، لافتاً إلى أن المثقفين في منصات الأندية الأدبية لا يحلمون بهذا التفاعل، ومضيفاً: «حتى لو لم تصدق حكايات تماهيه، فمجرد وجود شريحة عريضة دليل نجاح يؤكده تماسك جمهوره ولو كان متعصباً، قبل أن يؤكد ضرورة التخفيف من التعصب أنه يمثل «هوية» لأنه لا يمكنه اختصار كل مناطق المملكة، لكن يمكن اعتباره (لوقو) لثقافة جيل، يميزه عن مجايليه. وعقب العباس على مداخلات فنية: كما «كلثمت» أم كلثوم الملحنين، حافظ خالد على رتمه سواءً بكلماته وألحانه، أو بغيره، قبل أن يكشف أن المطربين اليوم بمن فيهم خالد وقعوا في ورطة التناغم مع إيقاعات العصر، لكنه بلا شك سيجد حلاً لن يبعده عن قالبه.