عرف الوضع الإشكالي لتاريخ اللغة في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة، ظهور مشاريع نظرية ومنهجية عدة، عملت على مراجعة الأسس التي قام عليها التاريخ التقليدي للغة، واقتراح بدائل جديدة لكتابة تاريخانيتها الجديدة، ومن بينها جملة التصورات التي اقترحها اللغويون البنيويون والتوليديون والسوسيولوجيون والشكلانيون والماركسيون وعلماء الواقعية، والواقعية الجديدة، التي أوغل فيها الفرنسيون والألمان والروس، على وجه مخصوص، من دون أن ننسى الجهود الإنكليزية القديمة والأميركية الحديثة وجملة التأثيرات الايجابية والسلبية التي تركتها على أصحاب الدراسات اللغوية المعاصرين، الذين انطبعت دراساتهم اللغوية بها، وليس آخرها هذه الدراسة المجددة التي قدمها أستاذ العلوم الألسنية في الجامعة اللبنانية الدكتور نادر سراج (الشباب ولغة العصر، بيروت، ناشرون، 2012). وتكاد هذه الدراسة التي نعرض لها، تنهض بجملتها على عمودية مبتكرة، هي حصيلة المؤثرات المبكرة التي عرفها الباحث فبرزت في مؤلفاته السابقة، وقد تمثلت في هذا المبحث الجديد، حتى بدت لنا وكأنها تتبلور في إطار مشروع موسوم ب «جمالية التلقي» كإبدال تمكن الدكتور نادر سراج من بلورته خلال قراءات متأنية للإبدالات النظرية التي سادت في الغرب اخيراً، مبرزاً المرتكزات التي قامت عليها، وكاشفاً الثغرات التي تعتريها، وهي تسعى إلى كتابة تاريخ للغة العربية أو دراستها لا فرق. تقع دراسة سراج في مقدمة وأربعة فصول، إضافة إلى الملاحق وثبت المصادر والمراجع. وقد أفاض في المقدمة، عن الأسباب التي سوغت له هذه الدراسة والسبل التي سلكها، والاعتبارات التي أخذ بها والمواد التي وفرها والمناهج التي اعتمدها والنتائج التي توصل إليها. فهو يقول: «هذه الدراسة التي تغرف من معنى العلوم الإنسانية والاجتماعية معاً، والتي نقاربها من منظور لساني، تثبت علمية اللسانيات وقدرة علومها لا على توصيف الألسن وحسب، بل على معاينة تنوع الاستخدامات اللغوية في البيئة الثقافية الاجتماعية الواحدة». ويضيف سراج: «دراستنا هذه التي تطمح إلى مقاربة ألفاظ الحياة العصرية وإسهامات الشباب في خلقها وترويجها اقتراضاً ونحتاً وابتكاراً، عبر منظومة أشكالٍ تعبيرية وأسلوبية مستجدة، لا نعرضها للقراء الكرام بوصفها نسقاً مستقلاً ومتجانس المكونات، بل بالأحرى باعتبارها نموذجاً دينامياً يتصدر واجهة المشهد اللغوي اللبناني، وتتردد أصداؤه في غير بيئة لغوية عربية» بحيث يرى فيه صاحبها نافذة يطل من خلالها على مروحة التنوعات والتجديدات اللغوية. (ص 13 – 14) وتحدث سراج في فصول الكتاب الأربعة عن: «رحلة المقترضات في لسان الضاد» وعن «استراتيجية الاقتراض وآليات صوغ الأفعال المقترضة» وفي الفصل الثالث قدم «نماذج عن المقترضات الأجنبية في اللغة الشبابية»، كما تحدث في الفصل الرابع عن «الاقتصاد اللغوي وصيغ التعديل اللغوية الشبابية»، وذيل البحث بالملاحق اللازمة للشرح والتوضيح والإسناد، كما ذيله أيضاً بجداول للمقترضات اللغوية التي وردت في الكتاب، بوبها وفق التصنيفات المصدرية والفعلية والنعتية والإسمية وبلائحة بالمفردات المتداولة في لعبة كرة السلة وبجدول عام بالمقترضات والمختصرات الإسمية والفعلية، وأسماء العلم الأجنبية والتعابير المختلفة ذات الأصول الهجينة. والواقع أن سراج الذي أخذ في دراسته اللغوية هذه متحرياً لغة الشباب اللبناني عموماً ولغة ابن بيروت خصوصاً، كان يستعين بالمنهج التاريخي التقليدي وتصنيفاته الوضعية كما بدا لنا في الفصلين الأولين. غير أنه كان يبحث أيضاً عن الجمالية الماركسية القائمة على فكرة التصوير، وما تبلور في إطارها من تنويعات منهجية سوسيولوجية من أجل بلوغ ما يعرف لدى اللغويين الألسنيين، بجمالية الإنتاج الشكلانية وإبدالاتها البنيوية. فقد تسنى للباحث الألسني سراج، في دراسته هذه، بسط الأسس والمفاهيم التي قامت عليها «جمالية التلقي» لتجديد منهجية كتابه تاريخ اللغة العربية اللبنانية، وعمل على تحديد المآزق التي اصبحت تتخبط فيها بعض النماذج النظرية السائدة في دراسة اللغة أو التاريخ لها، في غياب المستندات العلمية الدقيقة، وذلك من أجل تأكيد العلاقة الحوارية بين اللغة التي ابدعها الشباب وبين المتلقي نفسه. وكأن الباحث يريد أن يبلور تصوراً جديداً في كيفية التعامل مع الظواهر اللغوية الشبابية المستحدثة. لهذه الأسباب ربما، بدا الدكتور سراج متجاوزاً لسلبيات الاقتصار على علاقات التماسك القائمة بين هذه الظواهر، بمعزل عن تداولها بين القراء والكتاب المتعاقبين. وهي النتيجة نفسها التي خلص إليها صاحب مدرسة كونسطانس الألمانية «هامس روبيرت ياوس H.R. Jauss حين تحدث عن ضرورة محاورة الألسني للنماذج الثلاثة التالية: النقد التاريخي القائم على جمالية التعاقب الزمني، والجمالية الماركسية المرتهنة لفكرة التصوير والجمالية الشكلانية المتمركزة حول الإنتاج اللغوي النصي الحديث. من هنا نرى سراج نفسه يقول: «المقترضات الشبابية التي سنتوسع في الحديث عنها، ليست وليدة الساعة، ولا هي منقطعة عن المسار التاريخي لدخول مختلف المقترضات إلى نسيج لغة الضاد. لذا سنقارب هذا الموضوع عبر معالجتين: الأولى تتناول تاريخية الظاهرة والسوابق الاقتراضية، والثانية تدرس المقترضات في عالم اليوم». ليقول أيضاً: «سنبدأ بالتذكير بتاريخية تسرب المقترضات إلى خطابنا العربي اليومي» (ص 36). حقيقة استطاع الدكتور سراج أن يقدم لنا بحثاً وافراً في الاقتراض اللغوي في لغة الضاد، غير أن مساهمته ألمعت إلى عمودية لغوية جديدة ذهب إليها بدراية منه، أو بغير دراية، وهو تحقيق ما يمكن أن نسميه جدالياً «جمالية التلقي» في لغة الشباب البيروتي المعاصر والحديث. هذه الجمالية التي سرعان ما أثبتت جدارتها في الرسائل القصيرة، سواء على هواتف الشباب أم في «فايسبوك» أو «تويتر». فغدت إذ ذاك لغة الشباب في التواصل. وهذه اللغة الشبابية التواصلية التي تأسست كما نرى على «جمالية التلقي» هي التي استطاع نادر سراج أن يبلور قواعدها البنيانية ويكشف عناصرها الأساسية التي قامت عليها. * استاذ في الجامعة اللبنانية