قليلة الكتب التي تتناول جوانب من حياة الشباب ومشاغلهم وتطلعاتهم، وبالأخص لغتهم، لكونها ظاهرة لغوية متعددة الدلالات والمركبات، المسكوت عنها في الخطاب التداولي العام، وتتطلب معالجة علمية في ضوء علوم العصر ومناهجه، بغية معرفة منطلقات حصول التغيُّرات التعبيرية التي تسود مختلف الأوساط الشبابية. وفي هذا السياق، يأتي كتاب نادر سراج، «الشباب ولغة العصر»، كي يسدّ ثغرة مهمة في المكتبة العربية من خلال تناول هذه المسألة، بالاستناد إلى ما تقدمه الدراسات اللسانية الحديثة، وإلى خبرته في هذا المجال. وتمحور مسعاه على نقل مضامين خطابات مغيَّبة، من خلال النظر في ما تفوَّه ويتفوّه به الشباب من كلمات ومصطلحات وتعابير مقترضة، فجمع وقائع، تتذرّر يومياً على ألسن الشابات والشبان، وتتردد في الأغاني والمسرحيات والمسلسلات والإعلانات التلفزيونية، وفي دورة الكلام وأجزاء القول والخطابات الحديثة. ويظهر المشهد اللغوي العام الذي يجري الاشتغال عليه تنوعاً وخصباً، سواء من جهة المواضيع العامة أو الفرعية المدروسة، التي تكشف مركبات جديدة، ثنائية اللغة، وحمالة أوجه، ومولدة بناء لقصدية شبابية وإعلامية، متعددة في معانيها ودلالاتها الموضوعة لها. ويجري إخضاعها للدراسة اللسانية الحديثة، وبخاصة دراسة رصيدها المعجمي. لكن ما يشغل الباحث أكثر هو الدينامية التزامنية لموضوع الاقتراض اللغوي، في وجوهه المتعددة التي تنال وافر الاهتمام، مقارنة بموضوع الاختصار أو الاقتصاد اللغوي. والاقتراض اللغوي مبدأ لساني معروف، ويستند إليه اللسانيون، بوصفه قاعدة إيضاحية للخطاب ولمختلف أشكال التواصل الاجتماعي، وتختلف ظواهره في بعض أشكاله ومستوياته. ويعتبر نادر سراج أن المقترضات تجلب، بشكل عام، منفعة للغة المقترِضة التي تستعير من اللغة الأجنبية المقرِضة وسائل تعبيرية جديدة، بالنظر إلى أن الاقتراض اللغوي يشكل جانباً من جوانب التلاقح على مديات زمنية بين الثقافات واللغات، حيث ترصد المناهج اللسانية مفاعيل عمليات الاقتراض وسيروراتها، وتبيان دورها في تعزيز القدرات التواصلية، ورفد النسيج اللغوي العربي بمفاهيم ومصطلحات حديثة. ومع عرض نماذج عن المقترضات الرائجة في الخطاب التداولي العام، تظهر كلمة «الشوفرة» التي رافقت دخول السيارة إلى البلاد العربية، وتمثل الكلمة الأولى التي عرّبها الجمهور عن كلمة «شوفور» الفرنسية، وطوعها مشافهة، ونسجها على وزن فوعَلَ. وقبل ذلك، وفي العهد العثماني، راجت كلمة «سوكَرَ»، بمعنى أمن على البضاعة، ثم نسج منها «مسوكر»، أي مؤمن ومضمون. ثم تتالت السوابق الاقتراضية خلال القرن العشرين المنصرم، فراجت «الفوترة» من «فاتورة»، و «المكيجة» من «مكياج»، ومقترضات تتصل بتسريح الشعر. وتتالت مقرضات مثل «البزنسة» و «الدكترة» و «الأوفرة» و «الكودرة» و «المستكة»، وصولاً إلى «الغوغلة»، و «الأوبمة» و «الكوكلة»، و «المدكنة»، وكثير سوى ذلك. وتتضمن المقترضات المعربة والرائجة بين أوساط الشباب، نماذج اقتراضية شائعة وشبابية المنحى، وأخرى نتجت من تمدد المقترضات الوافدة من ألسن حية في مختلف المجالات؛ وبخاصة تلك التي تستقطب الاهتمامات الحالية للجمهور عموماً، وللناشئة من الجنسين تحديداً، حيث استحدث الشباب كلمات دخيلة، وولدوها بوسائلهم الخاصة، للتعبير عن أحوالهم وأمزجتهم، مثل كلمة «مبَومَر»، المقترضة من «بوان مور»، وتعني نقطة عطالة السيارة، التي تحولت إلى معنى العطالة الجنسية، أو شاب لا يفكر، أو «رأسه فاضي». يرجع نادر سراج ظاهرة الاقتراض اللغوي إلى السلوك التحرري للشباب، الى حد يطاول مجالات الزيّ، وتسريحة الشعر، والمأكل، والمشرب، والرياضة، وفنون قيادة المركبات والدراجات، واقتناء الهواتف الخليوية، وملاحقة تطورات الموضة، ومختلف الصرعات الشبابية. وعليه، فإن هنالك إشكالية حقيقية، ذات مظهر سلوكي لغوي، تتجسد في أن الشباب ينزع على الدوام إلى مشاكلة الغرب بثقافته، ويتشبه بأبنائه أفراداً وجماعات في السلوك والمظاهر والممارسات، لذلك تعبّر فئات من الشبان والشابات عن أنفسه، فكتب هؤلاء بالإنكليزية وبدرجة أقل بالفرنسية، ولا يكتبون العربية إلا نادراً وبصعوبة. ويلاحظ سراج أن المقترضات الدخيلة، تؤخذ عادة من مستخدمي العربية، على تنوع بيئاتهم، بمعانيها وتسمياتها، وبلغاتها الأصيلة، أو بصيغ مترجمة، وبأخرى معربة، تعدل تراكيبها وفق الأمزجة الشبابية، وبحسب سياقات الاستخدام المستجدة. لكنها لا تؤخذ في غالب الأحيان بمعانيها القاموسية، بل بأخرى تواطأ عليها الشباب، وباتت تتوافق مع طبيعة استخداماتها الجديدة في قاموسهم الخاص، بالألفاظ الذي يسترسلون في تكوينه واستخدامه، حتى يمسي أشبه ما يكون «بلغة» خاصة بهم. وهذه الظاهرة لا تخص الأوساط الشبابية اللبنانية، بل تطاول أوساطاً شبابية عربية أخرى. غير أن «اللغة» الشبابية تنزع نحو الاقتراض من اللغات الحية وإلى الاختصارات المبتكرة، بغية تسهيل عملية التواصل مع الآخر، وفق استراتيجيات تواصلية معتمدة أكثر فأكثر من قبل أجيال الشباب. وتأتي اللسانيات لتدرسها، وتميط اللثام عن الجانب المعيش للفئات الشبابية، من خلال درس الاستخدام الشفوي والمحدود للمفردات والتعبيرات والمصطلحات المستجدة، في سياقات محددة، وفي بيئات لغوية تضج بالحيوية وبروح الابتكار والتجريب، وجمع هذه المعطيات اللغوية، بعيداً عن نظرة المجتمع التقليدية والمعيارية، لا بل المسبقة إليها، وتحويلها عن مصاف العاديات أو الدونيات أو المحظورات اللغوية، إلى مدونة لغوية اجتماعية متماسكة، وقائمة بذاتها وقابلة للدرس والتفكيك والتحليل. ويعتبر نادر سراج أن الشباب يلجأون باستمرار إلى اعتماد مبدأ الاقتراض اليومي، نسجاً على منوال من سبقهم، أو انتهاجاً لطرق صياغة جديدة، تتماشى مع أمزجتهم، وطرق تفكيرهم، واهتماماتهم، فيبتدعون المقترضات ألفاظاً مفردة أو مركبات أو مختصرات، ويتناقلون مختلف صيغها المتناسلة عبر وسائل الإعلام الجديد، كال sms أو facebook أو chatting أو twitter ورسائل الهاتف الخليوي، والرسائل المتلفزة، أو شريط الرسائل المتحرك، ويفاخرون بنسبتها إليهم باعتبارها ماركتهم الشبابية المسجلة. إضافة إلى أن شباب اليوم يرد ذكرهم في التحقيقات الصحافية بوصفهم «هيدول الكول»، ممن «يكزدرون» على كورنيش المنارة (في بيروت) وتحتوي عدتهم على علبة «جيل» و «ديودوران» (مزيل للرائحة)، وفرشاة أسنان، وتلوين «الغرّة»، و «سيشوار». * كاتب سوري