لا يزال الوقت مبكراً للحكم على ديموقراطية ما بعد سقوط الأنظمة، وما ستواجهه نساء العالم العربي بخصوص حقوقهن وحرياتهن، في حال استولت الأحزاب الإسلامية على السلطة. لكن لا شك أن حرباً بدأت تدور رحاها، في مصر وتونس وليبيا، بين هذه الأحزاب والنساء اللواتي يتقدمن بجرأة وقوة للحفاظ على حقوقهن بعد إسقاط الديكتاتوريات المقنعة بالعلمانية المجهضة. في سورية يبدو المشهد مختلفاً على رغم تصاعد المزاج الشعبي الإسلامي، لأن نظرة بسيطة الى ما قامت به النساء في الإنتفاضة يجعل الأمر أقل سوداوية مما يبدو. هذا التفاؤل النسبي يظل مرهوناً بنهاية التجربة الثورية السورية للوصول إلى الديموقراطية، والتي تبدأ أولى مراحلها مع سقوط النظام، وفي تبدل واضح للخريطة السياسية في المنطقة، نحو اعتماد إسلام معتدل على غرار التجربة التركية. كانت الإنتفاضة في سورية تحمل منذ بداياتها بذور أمنها، ليس بوصفها استثناء عن حالة الثورات العربية، ولكن بوصف المجتمع السوري يحمل جينات تعدده وتنوعه، ضمن الحالة المبتغاة لشعب انتفض مطالباً بحريته وكرامته. كما أن التعبيرات الشعبية في هتاف المتظاهرين، تعطي فكرة عن مزاج الشارع، رغم مظاهر أسلمة لا تزال ضمن خط المعقول لجهة حق الإنسان في الإنتماء إلى الدين كمرجع حياتي له، وهذا ما يظهر في الأغاني والرسوم والرقص خلال الهتافات، ومؤخراً كانت المفاجأة في ليلة رأس السنة الحافلة بالأهازيج والرقصات والمفرقعات النارية الواضحة في معظم الشرائط المصورة للتظاهرات. حتى النساء اللواتي اقتحمن حلقات مراقبي الجامعة العربية كن من المحجبات ولسن من المنقبات، مما يعني حقيقة أن لا رؤية متشددة سلفية في الدين، بل يوحي هذا برغبة شعب عارمة في الكرامة والحياة ضمن مرجعيته الدينية. هذا في حال لم يتم تسويق هذه المرجعية، بعد سقوط النظام، لمصلحة برنامج سياسي إسلامي للدولة. قبل تشكيل التنسيقات، واندلاع الاحتجاجات، وعندما كانت مصر وتونس في حالة غليان، كان الشباب السوري يتحرك بصمت، ويفكر بصيغة للخروج بالشارع ضد نظام الإستبداد. وحينها كان للنساء دور كبير في هذا الحراك الأولي عبر تنسيق الاجتماعات الأولى. واللافت أن هذا الحضور النسوي كان مقترناً بتنوع طائفي وطبقي أيضاً، سرعان ما انتقل إلى ناشطات الإنتفاضة، عندما عمت الاحتجاجات المدن. فمن الملاحظ وبشدة وجود المرأة في تشكيل التنسيقيات، وفي الميدان في التظاهرات، وفي كتابة البيانات الثورية، وتصويرالأفلام ونقلها إلى الإعلام وإغاثة المتظاهرين وتشكيل لجان دعم للانتفاضة، وجمع التبرعات المالية، وربط أواصر الوحدة الأهلية عبر التوعية بين الأهالي. والأهم من كل هذا النشاط الملحوظ الذي قمن به في إغاثة الجرحى، والدور الذي لعبنه مع تنسيقية الأطباء. وفي ربط التنسيقيات بين مختلف المدن كانت للنساء الدور الفاعل، وفي الوسط الثقافي كان للحضور النسائي وجهه الأكثر شجاعة وتأثيراً من حضور الرجال. وفي قيادة التظاهرات وجدت أكثر من ناشطة تقودها بشكل علني، هذا في حال لم نذكر القياديات في اللجان واتحاد التنسيقيات اللواتي تحولن إلى أيقونات للثورة. وعدا ذلك، كان للنساء نصيب كبير من الاعتقال والمطاردة والتعذيب. المهم في الأمر أن الأقليات التي خرجت منها النساء الناشطات كانت موجودة (الدروز والعلويين) وهو أمر يتناقض مع ما يتردد حول تبعية هاتين الطائفتين للنظام، والخوف الذي حُشرتا فيه، وفي الوقت الذي نجد أن نسبة كبيرة من الناشطات هن من أقليات معينة، نجد على الطرف الآخر أن النسبة الكبيرة من الناس العاديين من هاتين الطائفتين صمتوا خوفاً، أو التحقوا غالباً بركب النظام. وهذا يعني أن الانتفاضة لا تمت للطائفية بأي مدلول، وهو ما يكسر رواية النظام، ما يعني أيضاً أن هذه الأقليات كان لديها من هامش الحرية الاجتماعية ما يتيح أن تخرج منها نساء على هذا القدر من الوعي والتحرر من التبعية الدينية والعائلية والطائفية. النساء لم يكنّ فقط الى جانب الرجال في صنع الانتفاضة، بل شكلن حالة يجب دراستها بعمق، عندما يتسنى لكل واحدة من الناشطات الحديث بحرية عن تجربتها، لأن الحديث عن هذه التجارب سيجلو الكثير من الحقائق، وسيقودنا إلى السؤال التالي: إذا كانت النساء قد ساهمن في الحراك بشكل كبير، فهل سيدفعن ثمن ذلك بعودتهن إلى ظروف لاإنسانية بحسب ما تشير الدلائل؟ وهل سيكنّ أمام استحقاق صعب، كما حدث عقب الثورة الإيرانية سنة 1979 عندما انقلبت الثورة، وكانت أولى ضحاياها حريات النساء وحقوقهن؟ وفق المجرى التاريخي لسياق الانتفاضة في سورية، يصعب القول إن حقوق المرأة ستكون بخير، ليس بسبب صعود التيار الإسلامي فقط، فالمطروح سلفاً هو تيار معتدل يحفظ المسافة الباقية بين حقوق الفرد المواطن، وبين حريته في طقوسه وشعائره الدينية. ولكن الخوف يأتي هنا مما قد تؤول إليه الانتفاضة في حال استمر الوضع على ما هو عليه، واتجه الشارع أكثر فأكثر نحو التدين والتشدد، عبر أوساط مستقلة تخرج من هنا وهناك تدعو إلى أسلمة الدولة، وترفض الحديث بأبسط مقومات الدول الحديثة وهي «الدين لله والوطن للجميع». وقد يحدث، وحالما يسقط النظام، أن يتم إبعاد النساء عن مراكز القرار، ويتبدى وجه آخر غير واضح الآن بالنسبة للأصوات المتشددة، وهو ما يجب التنبه منه: إذ على رغم الحضور الطاغي للنساء، فمن الواضح الميل الى تبني ذاك الابعاد سياسياً لخدمة المشروع الإسلامي. لقد كانت المرأة في عهد النظام الديكتاتوري تعيش تحت حرية مقنّعة، تستلهم الشكل وتفرغ المحتوى الحقيقي لحق الإنسان في الحرية والمواطنة، مثل الرجل، ومع الإرث المتوارث والعادات والتقاليد، إضافة، مؤخراً، إلى اشتداد النفس الديني. ولسوف تعاني النساء أكثر، وسيصير عليهن تحمل المهام تلو المهام، بعد اسقاط الديكتاتورية، التي ساهمن في زوالها، وسيكون عليهن النضال على الجبهة الأكثر صعوبة والأقل سرعة في التغيير، وهي حفر بنية مجتمع خارج من استبداد مقنع بعلمانية، ومنفتح على تشدد وتدين يقصي النساء من المشاركة في الحياة العامة والسياسية. إن وجود دستور مدني وتغيير في قانون الأحوال الشخصية، وانشاء ومأسسة منظمات حقوقية مدنية منذ الآن، تعنى بقضايا النساء وتطالب بحرياتهن، هو الخطوة المكملة لسقوط الاستبداد في سبيل نيل النساء حرياتهن. فالاستبداد ناقص بالضرورة، وسقوطه ناقص أيضاً، لأنه سيظل يحمل طويلاً بذور تخلفه، وستكون النساء الواجهة الأكثر تعرضاً للخطر في حال لم يتم التنبيه إلى هذا الأمر. وعلى النساء أن لا يكن صامتات على خطط وبرامج سياسية للأحزاب الإسلامية، التي تريد العودة بهن إلى زمن ولى ومضى، بحيث يخرجن من نير إلى نير، ومن ظلام إلى ظلام. إنهن حقيقةً واقعات الآن بين المطرقة والسندان. * كاتبة سورية