أكتب من ركن قصي، وزاوية هادئة لمدينة بهية صغيرة، تنتمي لهذا الكيان الكبير/ الوطن، هربت - لست وحدي - من وطأة الاسم الأخير حين لا يزال لدينا متعصبون كثر - كعشاق الرياضة - تميل رؤوسهم بما فيها، وتتحرك قلوبهم بشغف لقراءة طرح الفكرة، والحكم على الحضور الكتابي، انطلاقاً من المؤسسة الاجتماعية الأشهر. عشت طفولتي في قرية صغيرة حالمة، تنام باكراً وتستيقظ قبل شروق الشمس، ولم يحدث أن تآلفت مع الضجيج على مر السنين، انطلقت من هناك بملابس أهلي الثابتة، وقناعاتهم الأكثر ثباتاً، تعلمت منهم أن تراب الوطن ثمين متساوٍ على اختلاف موضع القدم، مادام النبض «سعودياً خالصاً»، ولذا كانت قريتي على شفاه أفرادها تدعى «وطناً» ولا تزال، ومن المسمى ورائحة الوطن الصغير عرفت قيمة الوطن الأكبر الشامل وبه ذُبْت، وضعت قدماي مع مضي خطوات العمر في أكثر من مكان، خالقاً صداقات فارهة على امتداد الخريطة، ومع كل هذا وذاك يصدمني السؤال الحارق حين التقي بمن يقرأ الحروف فقط على شاشة الكترونية، أو رسالة نصية، ومن يشاهد صورة الشارب الخفيف: الى أي القبائل تنتمي؟ ومن أي المدن تكتب؟ قد يملك البعض من عشاق السؤال فراسة قراءة الوجوه، وهواية الاحتفاء بالتاريخ، والربط بين الجسد والعقل والمكان باحترافية مدهشة، ولكن ما لن يقدر عليه هو ربط الأفكار بالمكان، ونحن الذين اختلطت أجسادنا ووجوهنا وقلوبنا من كل الأركان عبر بوابات التعليم والعمل والصحة، وكنا سواء في شاشة التلقي وأوراق التعلم، يستيقظ صغيرنا ليحتضن حقيبة المدرسة بمحتوياتها تلك التي يحتضنها نظيره في المركز، وشريكه في مدن الأطراف، تختلف اللهجات هنا وهناك، وتتنوع السحنات والطباع، فنتفق بالمجمل على عشق الأرض، وتنطبع في الذاكرة قصص حب ولحظات تستعصي على النسيان للزوايا والأمكنة. كان - ولا يزال - المركز بمثابة القلب لأعضاء الجسد الواحد، هذه الأعضاء تتوزع باختلاف فطري، ولذا لا غرابة إن اجتمع الجزء الأكبر من الأعضاء في المركز، ومُنِحَت الأطراف بقايا الحنين والحب والاسترخاء، وتعلم فن الهروب من الأسئلة التي توجع كثيراً! أحبط حين ينطلق السؤال من فم مواطن أقْتَسِم معه رغيف حب الأرض، وأشاركه الهواء ذاته، ونلتفت معاً للدقيقة والساعة على منظر واحد مع البعد الجغرافي الأخاذ والمدهش، حين ينطلق السؤال من دون حاجة ماسة مفهومة معلومة، أشعر أنه يصطدم بي اصطداماً عنيفاً، ويحصر الجهد والمجهود بنطاق ضيق لا تقف أمامه الإجابة المتنوعة الثابتة تماماً، ولكنها تعرقله، بل في أحايين كثيرة تؤطره ضمن ما تمليه العاطفة أكثر من العقل. لا أهرب من المؤسسة الاجتماعية/ القبيلة «على رغم انتمائي لها»، ولا حتى من إجابة السؤال الأكثر أهمية لدى الشريحة المتناقضة، إنما حين تذهب الأسئلة لخانة «اللا مفيد» في التوقيت الذي نستعد فيه لنبذ عناصر التفريق، ومفردات الانتقاص، فلا بد أن تأخذ دائرة الإجابة حال عمى كلي، يرادفه يقين تام أن الأوراق اليابسة تسقط من الشجرة الثابتة لمئات السنين من دون أن تؤثر أو تتأثر، وإن كان السؤال عن القبيلة لمجرد السؤال ذاته، فأنا غني عن الإجابة، لكن المحزن بالفعل أن نفتش في الجذور التاريخية، ونطالع الجغرافيا بالمزاج، ونحكم على المقابل بعد ما نضع «القبيلة» نصاً لسؤال! ثم نمدد الرؤى والقناعات على الطاولة، ونبدأ في النظر بنصف عين لمن ينتمي لنا، أو يقترب منا، وبالإشارة عن بعد لمن لا تروق لنا إجابته عن السؤال: ما قبيلتك؟ [email protected] twitter | @ALIALQASSMI