الأحد 18/12/2011: حضور المغنية رحيل سيزاريا أيفورا هزّ انكفاءنا ممزقاً سقفاً من الأيديولوجيات ومن وحشية مستعادة تظلّل أيامنا: يكفينا سقوط رئيس أو ديكتاتور حتى يظهر خواؤنا تحت السقف، فنسترخي، تاركين لنمل الأرض وحشرات الفضاء أن تأكل أجسادنا وأرواحنا قطعة قطعة، ولا نتنبه. نفقد الفولكلور، خصوصيتنا، ونستبدله بغناء غبي على إيقاع مسروق، أو نستسهل الأمر فنحرّم الغناء والموسيقى لتبقى أرواحنا حبيسة لحم وعظم ودم تتغذى بطعام مستورد. رحيل سيزاريا أيفورا يتحدى رخاوة أجسادنا وتبخّر أرواحنا نتيجة كلام يحرق ولا يخصب، ورحيلها استعادة لحضورها لدى نخب أكثر اتساعاً، يسمعون صوتها وإيقاعها ويقرأون معانيها: - أصرّت على الغناء بالكريول، اللهجة العامية لجزر الرأس الأخضر الواقعة في المحيط الأطلسي قرب أفريقيا، لغة مزيج من البرتغالية ولهجات محلية قليلة المفردات والصياغات. - مغنية تتمسك بالتراث المحلي فيدخلها العالمية، في حين أن غناءنا يتوسل إلى العالمية إلصاق كلمات وصيغ أجنبية باللغة الأم فلا يوصله إلى مكان أو مكانة. - السيدة الحافية القدمين غنت في أرضها الأم طويلاً ولم تيأس، لأن الغناء بوحها وحياتها وليس بالضرورة سبيلاً إلى شهرة واسعة. وبعدما تعدت الأربعين اكتشفها فنان فرنسي فسجلت أعمالاً في باريس وصلت إلى العالم - هنا إشارة إلى فضل فرنسيين وبريطانيين في كشوف فنية عالمية. إنها إيجابيات الاستعمار على رغم تسببه بالآلام لمعظم الشعوب. - تنتمي أعمال الديفا الراحلة إلى مزيج من الغناء المحلي والفادو البرتغالي والبلوز الأميركي - الأفريقي. هذا المزيج جوهره الحنين والفقد، كأنما المغني أو المغنية عند شاطئ البحر ينتظر أحباباً لن يعودوا أو يودع أحباباً لن يراهم. إنه رسالة القلب إلى القلب لا يجاريها غناء عابر بإيقاعات عابرة. - سماعنا سيزاريا أيفورا مشاركة في تنهيدة البشر الحقيقيين وفي فرحهم المتغلب على العذابات، وفي أملهم حين يقفز الحواجز الحديد. الاثنين 19/12/2011: أصوات تجفل العصافير من القناص، يزاحم الزقزقة بالطلقة ويقسم الفضاء بين إنسان وطير. الخطباء، أصواتهم العالية ترتطم في الفضاء ثم تتشظى داخل بيوت ُمحكمة الإقفال، نعجز عن الحديث في البيت، يندر كلامنا ويستغرقنا سماع مفروض. تهرب العصافير من الخطباء، بعيداً إلى بلاد يتبادل أهلها الحديث بلا عائق، مثل بشر طبيعيين. الثلثاء 20/12/2011: عباس بيضون شاعر وكاتب مثل النهر، اسمه عباس بيضون، تأخر في النشر ليتكثف صدور أعماله في شكل لافت. مثل النهر يهدر ولا تتشابه مياهه. إنك لا تقرأه مرتين، وإنك لا تعبر النهر مرتين كما قال هيراقليطس، أي أن كتاباته تحمل الجديد ولا تكرر قديمها. لسنا أمام معجزة إنما أمام إنسان أحسن الحفاظ على أصل نفسه خلال التجربة، حين يستوي في الهول سجن في الوطن وأسر في إسرائيل، وأخطر منهما مواضعات تقنن الفكر والخيال وقوالب تفرضها أحزاب وطوائف وشلل فيتشابه الكلام وتختنق الحرية. النفس الحرة العصية على الأسر منبع النهر الذي اسمه عباس بيضون، يدهشك أو لا يدهشك، لكنك تراه في نصوص نثرية وشعرية بلا حدود ولا ضوابط، سوى النهر الذي قد يفيض فيجتاح أرضاً وزرعاً وبيوتاً. أحدث ما صدر لعباس كتابه السردي «البوم الخسارة» (عن دار الساقي)، وفيه عن جده لأبيه: «حكى لي أحدهم أنه رآه في يوم شتوي متجهاً إلى البحر، كان عجوزاً ثمانينياً فأشفق عليه من أن يؤذي نفسه، لكنه فوجئ به يتعرى إلى خصره ويرمي نفسه في الماء ويسبح قرابة نصف ساعة، ثم يخرج من الماء كما دخله وينشف نفسه، ويرتدي ثيابه ويضع طربوشه ويرجع من حيث أتى. لا أعرف من جدي إلا تلك الصورة التي تظهره بطربوش ونظارة وشاربين ولحية وطقم تتدلى السلسلة على صديريته لتضع الساعة في جيبه. جدي الذي حملت اسمه لم ينفرد في جيله ومعشره بالسباحة في الشتاء فحسب. انفرد أيضاً بطقمه الإفرنجي، وانفرد بثقافته فقد أمضى أوقاتاً طويلة وهو يفحص كتب التاريخ الإسلامي، وتبحر فيه بحيث كان يصحح للسيد الكبير تواريخ وأسماء. لا أعرفه لكني أحمل اسمه كما حمل هو في الأغلب اسم جده. دوران الاسم يعني أيضاً دوران الشخص، فلا بد أن فيّ شيئاً منه». وفي الكتاب عن جد عباس لأمه: «لجدي لأمي في بالي صورة واحدة. أشجار مرتفعة وغيضة وشيخ معمّم جالس أمامها. صورة نصلت لفرط ما قلّبتها في رأسي. لقد وقعت عليها منذ سنوات وأنا أنبش في ذكرياتي. في الحقيقة لمعت أمامي ولم أصدقها تماماً ولست متأكداً إلى الآن من حقيقتها. جدي أذكره راقداً دائماً في السرير، وأذكر جنازته التي تنازع أبناء القُرى على حملها. كنت ابن ست سنوات حينذاك ولا أعرف ما الذي ثبت هذا التاريخ في ذاكرتي، قالت بنات خالي الصغيرات يومذاك إنهن مقابل عودته إلى الحياة مستعدات ليتبودرن ويطلين شفاههن بالأحمر. أما أنا فصعّدت بكاء عالياً جعل البعض، كما توخيت، يلتفتون إليّ. جدي شيخ دين. حاز كما يُقال شهادة من المرجع الأكبر في النجف، وخصصه المرجع، دون سواه، بحق تطليق المرأة التي يغيب زوجها عنها ويتركها أمداً معلوماً بدون اتصال ولا مؤونة ولا مال. كانوا يروون ذلك عنه للإشارة إلى سعة علمه وأمانته. أما أهل القُرى التي تنقّل بينها فيروي بعضهم أنهم كانوا أحياناً يفتقدونه على سجادة الصلاة، أو في المجلس، ويقولون إنه حينذاك يغيب». الأربعاء 21/12/2011: إلى كاتب مصري أراك لا تكفّ عن استغراب فوز الإسلاميين، إخواناً وسلفيين، بغالبية مقاعد البرلمان الجديد في بلادك، فيؤدي بك الأمر إلى توقع معركة نهضة مديدة هذه المرة، خصوصاً أن شباب ثورة 25 يناير يُقتلون ولا من يحاسب. إنها «الثورة المغدورة»، والتعبير لرجل، من مكان وزمان آخرين، هو إسحق دويتشر حين كتب عن ليون تروتسكي. للتغلب على حيرتك أقترح أن تبدأ معركة النهضة الجديدة بدعوة غير مسبوقة إلى محو الأمية في مصر (تقول إحصاءات غير موثوقة إن 35 في المئة من المصريين لا يتقنون القراءة والكتابة)، دعوة ينخرط فيها الجميع باعتبارها أولوية وطنية. وهي تحتاج إلى جهد مكثف في أيامنا، لأن الأميين في مصر وغيرها من ديار العرب فقدوا الحافز إلى تعلم القراءة والكتابة بوجود فضائيات تغنيهم عن ذلك وتقدم لهم وجبات معرفية (هادفة وتنقصها العدالة بالضرورة) بالصورة والصوت. حين تنجح حملات محو الأمية تتوسع قاعدة الثقافة وتتحدد الأحجام السياسية. وإذا بقي الوضع كما هو الآن فإن الإسلام السياسي بأطيافه سيبقى في قيادة الدولة والمجتمع ويتأبد السجال ويتكرر، كأن عمرو بن العاص وصل قبل أسبوع، لا أكثر، إلى أرض الكنانة. الخميس 22/12/2011: عرفان نظام الدين لم يحظ كتاب عرفان نظام الدين «ذكريات وأسرار 40 عاماً في الإعلام والسياسة» بمتابعة يستحقها حين صدر عن دار الساقي في بيروت عام 2008، لكن الكتاب الذي يضم 888 صفحة سيبقى واحداً من مراجع الإعلاميين العرب، خصوصاً الجيل الجديد الراغب في معرفة تجارب مَن سبقوه. وعرفان نظام الدين الصحافي والكاتب السياسي، تولى مواقع قيادية في صحف عربية دولية مثل «الحياة» و»الشرق الأوسط»، متميزاً في إدارته الصحافية بمزيج من اللطف والحزم، وحضرت هاتان الصفتان في كتاباته التي تمزج التحليل السياسي بشيء من الوجدان، كأنه لا ينسى أبداً هدف السياسة الأصلي: تدبير أحوال البشر. يندفع الوجدان لدى عرفان نظام الدين ليندرج في كتاب عنوانه «خلجات الحب» (صدرت طبعته الثانية أخيراً عن دار الساقي)، وكان قسم من هذه الخلجات صدر متناثراً في كتابات المؤلف الصحافية. كتاب يندرج في أدب البوح، أي المخاطبات الشعرية التي تجمع البساطة إلى الإيحاء المركز، يتقنها المؤلف الغني بعواطفه، هو الذي صادق نزار قباني وشعراء آخرين في زهو الشعر العربي الحديث. الجمعة 23/12/2011: دهشة الأعالي لو أن أحداً يراقبنا من الأعالي، لرثى حالنا، وأدهشه كم نبدو أغبياء على رغم تجاربنا المتكررة. نبيع وعود المستقبل من أجل لحظة إنعاش، ونختلف على الماضي أكثر مما اختلف أهله وأبعد مما زوّر كتبة التاريخ. يترك الطفل أمه ليلتحق بالأعداء، وأول لغته أنه يتّقي اللعنة ولا يأبه بالرحمة. انظروا كيف ننصب قاتلينا أوثاناً وندفع عنهم نور الحقيقة. مسلمون منّا نراهم مع أبي لهب ومسيحيون مع يوضاس وملحدون مع جوزيف ستالين.