في مدينة سيت، جنوبفرنسا، فاجأنا الشاعر العراقي صلاح فائق الذي لبّى دعوة مهرجان «أصوات حية» المتوسطي للمشاركة في أمسياته واللقاءات مع الجمهور. ويمكن القول إنه كان المفاجأة الأجمل عربياً في إطلالته هذه بعد نحو عشرين عاما من الغياب وقد أمضاها في الفيليبين، في ما يشبه الغربة الأليفة على رغم البعاد عن العالم، شرقاً وغرباً. لا يزال هذا الشاعر الفريد، الطليعي والرائد من غير ادعاء، كما كان دوماً، على طرافته الغريبة والأليفة، حتى بات يصعب الفصل بين صلاح الشخص وصلاح الشاعر وكأنّ الواحد ظلّ للآخر. في المهرجان قرأ صلاح من شعره القديم والجديد وقد أصدر له المهرجان ديواناً ضمّ قصائد له مترجمة إلى الفرنسية مع أصولها العربية وأشرف على الترجمة الشاعر السوري صالح دياب. في حديث الى «الحياة» يتناول صلاح فائق هجرته إلى الفيليبين وحياته هناك والشعر والذكريات. «سأهاجر إلى الفيليبين أو تركيا/ أريد الاستلقاء عند البحر...»، تقول في إحدى قصائدك. هذه الأمنية تحققت قبل نحو عشرين عاماً ومعها حققت نوعاً من الهروب إلى عالم آخر أو إلى حالة أخرى من العيش، متذكّراً أصدقاءك المعذّبين في أوروبا: ما قصة هذه الهجرة إلى الفيليبين؟ ما سرها؟ لماذا الفيليبين البعيدة؟ هل حققت لك هذه الهجرة رغبتك في الهروب؟ - لم أهاجر إلى الفيليبين ولم أهرب إليها. سافرتُ إلى هناك في نهاية 1988، وقررتُ أنني سأختار هذه الجزر الضائعة، إذا قررتُ ترك العيش والعمل في لندن. أكره الشتاء، ولندن مدينة الشتاء. الشمس في الفيليبين نظيفة وجميلة، السماء صافية والناس طيبون. خسرتُ عملي في الصحافة في بداية 1992، ووجدتها فرصة ملائمة للخروج من ضجيج الإعلام والبحث عن خلاص شخصي. حقاً، كنتُ أنا وأصدقائي الذين كانوا يعملون في الصحافة في لندن، معذبين وحائرين، نعيش تناقضات مؤلمة بين ماضينا، قناعاتنا الفكرية والسياسية، وبين واقعنا اليومي، الذي كان أسيراً وخادماً لأكاذيب الأنظمة. لقد خرجتُ من كل شيء، من العمل، المدينة، البلد وحتى علاقاتي الاجتماعية والصداقات. قررتُ أن أبدأ من جديد، أراجع كتاباتي وأعيش حياة مختلفة. كنتُ أتقدمُ كأعمى في مجاهل حياتي حين كنت في لندن، المدينة غير المضيافة، وبعد سنوات طويلة خارجها، لم تعد جديرة بالتذكر. عندما رحلت إلى الفيليبين كادت أخبارك تنقطع وغبت أيضاً عن ساحة النشر وكأنك شئت أن تلوذ بالصمت. هل تعني هذه الغربة انقطاعاً عن الشعر؟ هل كتبت ولم تنشر؟ أم إنك لم تكتب إلا القليل؟ - كنتُ أكتبُ أحياناً في الفيليبين لكنني قررتُ عدم النشر لفترة طويلة. ينبغي إعادة النظر، بين فترة وأخرى، في التاريخ الشخصي. التاريخ هو النسيان. لكنني لم أفقه ما هو جوهري في كتاباتي، في الماضي والآن، وهو الإبقاء على طاقتها التدميرية سليمة، لم يكن شعر الكثيرين يمنعني. لم أنس عباس بيضون، سركون بولص، نوري الجراح، وقلة أسماء أخرى. ألا تعتقد معي أن رحيلك هذا هو أشبه بقصيدة طويلة كتبتها بعيشك إياها؟ - أعتقدُ أن كتابي «رحيل» كان تصفية حساب مع شعري وحياتي في وقت واحد. بعد هذه التصفية، وجدتني حراً أن أختار شكل العيش المختلف. حاولتُ جهدي أن أفهم البيئة الجديدة وثقافتها الرائعة من شعر وموسيقى، ورواية أخرى ورقص ساحر. التخلصُ من الأوهام يتطلب وقتاً طويلاً من التأمل، وكان فيّ الكثير منها ولم أشخصها إلا في هذا المكان المختلف. سنواتي الطويلة في الفيليبين هي قصيرة. قصيدة «رحيل» أخرى، كتبتُ قسماً منها في كتابي الجديد «ومضات» الذي لم ينشر بعد. وقد أكتبُ أقساماً أخرى أيضاً. الأمر يعتمد على المزاج وتوفر الوقت وفي ما إذا كان ضرورياً، بالنسبة لي، كتابتها، كل كتابة جولة مشؤومة حول أشباح. ماذا أضافت الفيليبين إلى تجربتك الشخصية والشعرية؟ - الفيليبين جزر وعواصف من المحيط الهادئ، زلازل يومية تقريباً وبراكين تنفجر فجأة، هذه الطبيعة كانت جديدة بالنسبة لي. قال لي رجل شاماني: أظهر احترامك للبركان وحين تمشي في الغابة أو عند المحيط، حاول أن تغني أو أن تقرأ قصيدة. الأشجار والأمواج تفهم جيداً. هناك أكثر من تسع لغات وعشرات اللهجات في هذه الجزر، يكتبون بها ويتواصلون. اللغة الأساسية هي التكالوك والإنكليزية. وفي الجزيرة التي أقيم فيها لغة أخرى محلية، لا تعرفها أو تفهمها حتى جزر قريبة. أتكلم هذه اللغة، لكن مفرداتها قليلة وشعرها محدود. الشعر المكتوب بالإنكليزية، وهو عموماً في العاصمة مانيلا، متأثر جداً بالشعر الأميركي. هل ستبقى هناك أم تفكر في العودة؟ وإلى أين؟ وما دمت تقول لي في القصيدة نفسها: «لا أفعل شيئاً الآن/ سوى تنظيف نظاراتي» ألا يمكنك تنظيف هذه النظارات في مكان آخر؟ - نعم، سأبقى هناك حتى نهايتي، أسافر، بين فترة وأخرى إلى جزر أخرى، فلي أصدقاء هنا وهناك. كما أسافر إلى لندن لأيام ثم أتجه إلى تركيا، التي أحبها كثيراً. نظاراتي تتلوث أكثر حين أترك جزيرتي، وهي تتطلب جهداً أكبر لتنظيفها في بلدان أخرى، ثم إنني أعيش مع كلب، يهتم بي ويمتّعني، لا أحب أن أتركهُ ولا أعتقد أنه سيتحمّل ذلك. إنها إحدى مسؤولياتي. في قصيدة «غربة» تقول: «لو أنني في كركوك الآن...» ماذا تمثل لك كركوك بعد مضي هذه الأعوام؟ كيف تستعيدها؟ وشعراء كركوك، رفاقك في الحلم والغربة كيف تستعيدهم؟ - هذه القصيدة مهداة إلى صديق عزيز هو عبدالوهاب ولي، من كركوك، وكنا معاً في لندن لسنوات طويلة، حين نلتقي نستعيد مشاهد وذكريات مدينتنا القديمة كركوك، ومنهما استلهمت صوراً كثيرة في هذه القصيدة. كركوك، كركوكنا، أنا وعبدالوهاب، ماتت منذ حوالى 25 سنة أو أكثر. إنها موجودة في الذاكرة فقط، وهي معي دائماً: «بدراجة سأعود من الفيليبين إلى كركوك اشتريتها بدينارين حين كنت جندياً أحتفظ بها كصديقة». كما كركوك، أصدقائي ورفاقي في «مجموعة كركوك» معي أيضاً. أحدهم، أو أكثر، يزورني في الليل، نجلس عند المحيط ونراقب الأمواج. القيم الجمالية والشعرية التي وثقتها المجموعة، تاريخية... ما زالت مؤثرة وستبقى لأنها لم تكن ظرفية، هناك الكثير من الأبدية في أعمالهم وهي لهذا السبب جديدة عند كل قراءة، من قصص جليل القيسي ومسرحياته، شعر سركون بولص الرائع، كتابات أنور الغساني المتميزة، الشعر الجديد دائماً لمؤيد الراوي، مسرحيات محيي الدين زنكنة، أشعار الأب يوسف سعيد، الصوت المذهل لجان دمو، وأعمال المبدع فاضل العزاوي، شعراً، ورواية وأبحاثاً. لا أعتقد أنني كنتُ سأحقق ما قدمته من دونهم. كنا أشقاء مخلصين للثقافة والأدب والشعر، العراق كان حبنا الأول، ولم نخنه أبداً، سواء في فترة الديكتاتورية أو في السنوات الأخيرة للاحتلال الإجرامي الأميركي. كيف تقارن بين جيل كركوك وجيل البصرة؟ - لا أعرف الكثير عن جيل البصرة، مع هجرة مجموعتنا من كركوك إلى بغداد ثم إلى الخارج، ظهرت مجموعة أدبية أخرى من الناصرية وكانت متميزة، منها أحمد الباقري، خالد الكردي (قتله البعثيون)، وغيرهما. تأثير المجموعتين كان أساسياً في الكتابات الجديدة بعد الستينات من القرن الماضي، ليس عراقياً فقط بل عربياً أيضاً. هناك حنين دائم إلى تلك الفترة وتثمين لها من قبل المجموعات التي ظهرت في ما بعد في العراق وغيره. وأظن أن هذا يدل على أصالتها وفضائها الشعري المختلف. يصعب تصنيف شعرك وإدراجه في مدرسة شعرية معينة أو في خانة النوع، فهو شعر مشرع على كل المدارس والتيارات لكنه في الآن نفسه هو صنيع ذاته. تقترب أحياناً من السورياليين من دون أن تكون سوريالياً وأحياناً من القصيدة الغنائية وأحياناً من القصيدة اليومية والميتافيزيقية، ويراوح شعرك بين وضوح وغموض يلازمانه دوماً. صلاح فائق أي شاعر أنت وأي شعر هو شعرك؟ - لا أميلُ إلى هذه التحديدات أو وضعي في هذه الخانة أو تلك. أعزف كلارينينتتي عند حافة بركان أحياناً، وهناك حديقة في يدي التي تكتب. أغني كما أرحب بالكوابيس، بابي مفتوح على مشاهد ميتافيزيقية وشباكي على القصيدة اليومية والغنائية. يتوقف النهر عندي ليرتاح فأحكي له قصة. أتجول في بساتين يرتبها سجناء وأجد تأملاتي هناك منحنية. أستعير عواء الذئب كما أنني متمرس، كالعميان، في التطلع إلى السماء. أنا أيضاً حائر بصلاح فائق هذا، إنه ظلي أحياناً، معاً نجول باحثين في الأزقة عن صور شعرية. أمس، صادفنا زنادقة يطاردون عازفين فاشلين، ففرّ صلاح فائق وكنت قريباً من تظاهرة أرامل، فدخلتُ فيها. في الليل عاد إلى البيت، فاستقبلته بازدراء. الشعرُ عمل، الصورةُ محل الكلمات، وصف مجازي، مهمتي خلع الأبواب. الشعر نشاط ذهني، وليست لي أمجاد. لا أكتبُ شعراً. الشعر يكتبني. أخبرني سركون بأنه رأى يدي تكتبُ بينما كنتُ نائماً. كان يسكنُ معي. في قصيدة لك تقول: «من الأبراج/ كنت أرى في كل مرة/ إشارات السفن وهي تغرق/ هكذا بدا المستقبل». أهذا هو المستقبل الذي تنظر إليه؟ - هناك الكثير من الصور والمقاطع الشعرية في كتبي تعبر عن هذا المستقبل، الذي لم يكن شخصياً فقط وإنما يشير إلى وقائع وأوضاع عانيت منها كما غيري. هذا المستقبل صار جزءاً من حياتنا اليومية ومن ماضينا. وما الحركات الشعبية الراهنة، الداعية إلى التغيير في كل المجالات، إلا بداية تجاوز حياة القرون الوسطى التي نحن مرغمون على العيش فيها بالعنف والأكاذيب. الموتى يحكموننا وقد ورطوا أنفسهم في جرائم لا تغتفر. أما الأغنياء وأولئك الذين يستفيدون من أوضاع كهذه، فإنهم يختفون كل يوم تحت سقيفة أو في سرداب ليعدوا نقوداً سرقوها ويلمعوا قطع فضة نهبوها بالقوة. لم أذهب إلى أي بلد عربي منذ زمن طويل، ولا أريد. لا أثق بهذه الأنظمة وتصيبني بالغثيان حين أتذكرها. إنه زمن الهجوم على منازل الفقراء والرافضين لها، لهذه الأنظمة، والفؤوس. لقد رأيت دائماً هذه الشعوب كرهائن، ووثقت هذه الحقيقة في كتابي الأول «رهائن» والذي كان من أسباب هربي من وطني. لا يدهشني إعجاب أو اهتمام الشباب الآن بهذا الكتاب وغيره من كتب، لأنهم يعيشون الواقع الراهن. والأمر كذلك بالنسبة إلى «تلك البلاد» ومجموعاتي الأخرى. ما زالت هذه الكتب تحتفظ بقوتها التعبيرية لأن مرجعها الموضوعي ما زال قائماً. لا يكفي انتظار الإنسان المقبل، حاملين هموم غراب. هناك جهاز خرافي، إعلامي، يبرر هذه الأنظمة ويبخّر لها ومن المؤسف أن نرى الكثير من المثقفين، الشعراء والكتاب، لم يقرروا الاصطفاف مع شعوبهم. لذا، لا أقرأ إلا لقلة قليلة حقاً، قلة حافظت على إخلاصٍ لقيم ووقفت بشرف إلى جانب مستقبل آخر يُصنع الآن في كل مكان. لقد انهار الخوف، بداية جيدة لزوال أوضاع شرسة يفرضها حكام أكتافهم صقور هائجة وعمياء.