عقدة التدويل عقدة سورية بامتياز، وهي التي أدت بالنظام في دمشق الى التوقيع على بروتوكول ايفاد جامعة الدول العربية بعثة المراقبين لحماية المدنيين تفادياً لإجراءات في مجلس الأمن تؤدي الى فرض عقوبات دولية على سورية. روسيا لوّحت بورقة التدويل عندما فاجأت الرئيس السوري بشار الأسد بطرح مشروع قرار أمام مجلس الأمن مطلع هذا الأسبوع، فاضطر الى الموافقة على عملية ستؤدي في نهاية المطاف الى تقويض حكمه عبر المحاسبة والمراقبة العربية والدولية، فمجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية يرقصان معاً وهما يسحبان الحصانة عن النظام السوري مع تقديم فرصة المخرج لبشار الأسد، إذا شاء اللجوء إليه، أما إذا افترض أن صيغ الخروج المعروضة عليه عبارة عن تراجع أمامه، يكون الأسد قد ارتكب أكبر أخطائه -وهي عديدة ومدهشة-، فالعالم يراقب برعب تفاقم قمع السلطات السورية للمتظاهرين وازدياد احتمال انزلاق سورية الى حرب أهلية بعدما اضطرت المعارضة الى العسكرة. الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن لن تتمكن من التفرج على تدهور الأوضاع أمنياً فيما تتخذ جامعة الدول العربية إجراءات إيفاد بعثة المراقبين. كان يجب على الجامعة أن تكون جاهزة مسبقاً لإيفاد البعثة بدلاً من انتظار توقيع سورية على البروتوكول ثم الشروع في تشكيل المراقبين وتحديد المرجعية، فلا خبرة للجامعة في هذا الميدان، الجديد عليها نسبياً، والسلطات السورية تبدو في عجلة لاستغلال الفترة الزمنية بين التوقيع والتشكيل للإنهاء على المدن المتمردة عليها قبل أن تضطر لسحب قواتها العسكرية الى ثكناتها تنفيذاً للبروتوكول الذي وافقت عليه، فهناك نوع من السباق الآن بين قيام النظام السوري بحملة تنظيف أمني على الأرض وبين صدور قرار لمجلس الأمن قد تكون روسيا مجبرة عليه إذا استمرت الحسابات السورية الخاطئة، فلقد حاولت روسيا، ومعها العراق، إنقاذ سورية من التدويل وإقناعها بالتوقيع. العراق من جهته، أقنع جامعة الدول العربية بإعطاء دمشق الوقت والمخرج كي لا تقع في أيدي إيران حصراً وتمضي الى حرب طائفية في المنطقة، لكن إيران ليست في افضل حالاتها، فهي أيضاً بين فكي الكماشة مهما تظاهرت بأنها فوق الاستحقاق. إنها تتصرف بصورة غريبة، على طريقة «قطع الأنف للانتقام من الوجه» بإعلانها قطع العلاقات الاقتصادية مع دولة الإمارات، منفذها شبه الوحيد. وهي في مأزق أمام احتمال تدهور الأوضاع الداخلية في العراق وأمام هبوط العملة الإيرانية الى أدنى مستوى لها، ما يهدد استقرارها، لا سيما إذا فرض المزيد من العقوبات عليها، وهي قلقة جداً من الأوضاع في سورية ونتيجة طريقة تصرف الحكم في دمشق بأبعد ما يمكن عن الإستراتيجية الحكيمة والمنطق والعقلانية. أركان النظام السوري يتصرفون بمزيج من الغطرسة والعجرفة وإنكار الواقع. بعض منهم يعتقد أن الرهان على الوهن والإنهاك في صفوف الدول العربية والأوروبية سيؤدي الى عودة الأمور الى مجاريها لاحقاً. البعض الآخر يراهن على شراء الوقت عبر الإيحاء بالتعاون، وعبر الحيل والخداع الذي يحول دون إنزال المطرقة على رأس النظام في دمشق. وهناك من قرر أن لا مجال الآن سوى للحل الأمني الحاسم، مهما كلف، حتى وإن أدى الى حرب أهلية دموية، كوسيلة إما لبقاء النظام في السلطة أو الخروج منها بحرب «عليَّ وعلى أعدائي». يقال إن هناك بين أركان النظام من يعتقد أن تنفيذ المبادرة العربية هو وسيلة الخروج المشرّف من السلطة، فبعثة المراقبين تشكل فرصة النظام للتعاون، بما يأتي عليه -ربما- بسجل جديد يعفيه من خروج مهين من الحكم، حتى وإن استغرق ذلك الوقت الطويل وأنقذ النظام من الضغوط المتزايدة، لا سيما ضغوط التدويل. إنما هناك أيضاً من يفهم تماماً أن بعثة المراقبين -حتى بعد تخفيض عددها من 500 الى 100، وبعد موافقة الجامعة العربية على تعديلات سورية جذرية على مهامها- ستكون أداة العد العكسي الى نهاية النظام، فالقوات السورية يجب أن تنسحب من المدن والشوارع الى الثكنات تحت مراقبة المراقبين، والمتظاهرون لهم حق التظاهر السلمي، والمراقبون لهم حق زيارة السجون، والإعلام العربي والدولي له حق دخول سورية بلا قيود. كل هذه الأمور الواردة في المبادرة العربية هي ضد احتكار حزب البعث للسلطة والتسلط على البلاد. كان الأجدى بجامعة الدول العربية أن توكل مهام تشكيل بعثة المراقبين وإيفادها الى الأممالمتحدة، الأكثر خبرة منها في هذا المجال. إنها تتقبل النصيحة والمشورة من الأمانة العامة للأمم المتحدة، لكنها الآن في حاجة الى مزيج سريع من الأموال الخليجية، وشراكة منظمة التعاون الإسلامي الفعلية في حشد المراقبين، واستعدادات عملية من وكالات الإعلام العربية والدولية لدخول سورية سريعاً، وإلا ستكون مضطرة للطلب من الأممالمتحدة القيام بهذه المهمة، لا سيما إذا استمر البطش الدموي في سورية للاستفادة من الفسحة الضائعة. جامعة الدول العربية متهمة من قِبَل بعض الأطراف السورية المعارضة وغيرها، بأنها تمهل النظام في دمشق على حساب أرواح السوريين. البعض ينظر الى تباطئها بأنه تواطؤ، والبعض الآخر يعتبره استراتيجية حكيمة توقع النظام السوري في مطب التدويل نتيجة انتهاكه التفاهمات العربية إزاء استنزافه حسن النية. الأفضل لجامعة الدول العربية أن تضع ثقلها وراء قرار لمجلس الأمن يكبّل النظام السوري وينذره بأن العقوبات آتية والمحاسبة جاهزة ولا مجال للإفلات من العقاب إذا تلاعب، فتلك المقايضة بين التعريب والتدويل غير واقعية الآن، لا سيما بعدما تغيرت الدينامية على الساحة السورية وفي مجلس الأمن. الدول الأوروبية في مجلس الأمن، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، تدفع العرب الى الطلب منها استصدار قرار من مجلس الأمن وتقول إن هذه ذخيرة ضرورية للوقوف في وجه ملف الممانعة الذي قادته روسيا في المجلس. لكن الأحداث المؤلمة التي أسفرت عن قتل المئات في الأيام التي تبعت التوقيع السوري على البروتوكول العربي أجبرت الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة على الكف عن الاختباء وراء «القيادة العربية للعملية» والبدء بالضغط على روسيا -رئيس مجلس الأمن للشهر الجاري- للبتّ بصورة أسرع بقرار لمجلس الأمن. روسيا طرحت مفاجأة مشروع قرارها ربما من أجل سحب البساط من تحت أقدام الغرب والعرب، الذين عملوا معاً بتداخل وتشابك الاستراتيجية للضغط على سورية. إنما الاحتمال الآخر هو أن يكون فعلاً طرأ تغيير جذري على السياسة الروسية نحو سورية بما جعل موسكو تقرر أنه آن الأوان للحزم مع دمشق وسحب غطاء الإعفاء عنها. الواضح أن روسيا ساهمت في دفع سورية الى التوقيع على بروتوكول بعثة المراقبين. ما ليس واضحاً هو قدر الجدية الروسية في السماح لمجلس الأمن بإصدار قرار وما إذا كان طرح مشروعها مناورة، او وسيلة ضغط، أو انها عازمة جدياً على طرحه على التصويت، بتعديلات طفيفة. سواء كان الهدف المراوغة أو الاستغناء عن النظام في دمشق، يجب على المعارضة السورية أن تتنبه للرسائل الروسية وتعمل على الاستفادة إما من الخطأ التكتيكي أو من التغيير الحقيقي في الاستراتيجية، فموسكو قلقة حقاً من صعود الإسلاميين الى السلطة في دول الحراك العربي، وهي تتأهب لقلب الطاولة على المعارضة -إذا اضطرت أو قررت ان ذلك في مصلحتها- آخذة عسكرة المعارضة كذخيرة، لا سيما من قِبَل عناصر «الإخوان المسلمين». ضمان عدم انزلاق سورية الى حرب أهلية ليس مسؤولية النظام حصراً. على المعارضة السورية أن تتصرف بجدية وأن تحصل على ضمانات من مختلف أطيافها بأن الاحتكار والمصادرة ليسا في الأفق. هنا تتكافأ المسؤولية وليس في مستوى العنف، إنما هذا لا ينفي أن ازدياد عسكرة الانتفاضة السورية سيؤدي الى محاسبة للمعارضة أيضاً وليس فقط للسلطة. إنها مرحلة حاسمة في غاية الأهمية، ليس فقط لمستقبل سورية وإنما أيضاً لنوعية العلاقة العربية-الدولية، وتلك التي بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ولعلاقة إيران مع سورية وبيئتها، كما للعلاقة الدولية مع إيران الفاعلة في الساحة السورية. التدويل قد يكون عقدة سورية لكنه أداة ضرورية، فلقد أثبتت دمشق أنها مازالت في صدد الإنكار والتلاعب، ولقد حان الوقت لتضييق الخناق عليها، جدياً.