سيسعى القائمون على الحملة الانتخابية لإعادة انتخاب الرئيس باراك أوباما لولاية ثانية، إلى إبعاد مسائل السياسة الخارجية، سيما تلك التي قد تورط الولاياتالمتحدة في نزاعات وحروب. سيعملون على إبراز قتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن بصفته أهم انجاز للرئيس أوباما، أقله من ناحية الأمن القومي الأميركي، وبصفة العملية بحد ذاتها شهادةً على شخصيته وقيادته. ما عدا ذلك من أمور سيدخل في خانة إدارة الأزمات إذا كان في قدرة حملة أوباما ضبط الصراعات واحتواؤها وإبعادها الى ما بعد شهر تشرين الثاني (نوفمبر) موعد إجراء الانتخابات الرئاسية. هذه الإستراتيجية لها مبرراتها، نظراً لانزواء الناخب الأميركي في شبه انعزالية، وإيلائه الأولوية القاطعة لما يؤثر في معيشته وحالته الاجتماعية وديون الدولة ونسبة البطالة ومستقبل الاقتصاد. الا ان مخاطر هذه الإستراتيجية جدية، كما أنها ليست مُصانة بسبب طبيعة الحدث، سيما في منطقة الشرق الأوسط واحتمال انزلاقه الى مرتبة لن يكون في المستطاع تجاهلها، فالرئيس الأميركي أعلن من أفغانستان هذا الأسبوع ان دور الولاياتالمتحدة في الحرب الأفغانية يقترب من نهايته، لكن الولاياتالمتحدة لن تتخلى عن هذا البلد ولا عن استكمال الحرب على «القاعدة». قال إن التغلب على «القاعدة» بات في متناولنا. خاطب مواطنيه من كابول بعد أكثر من عقد من الحرب في أفغانستان، التي زارها لست ساعات بصورة سرية ومفاجئة بمناسبة الذكرى الأولى لمقتل بن لادن. لكن الحرب على «القاعدة» لم تعد حصراً في أفغانستان، ف «القاعدة» تملك قواعد في باكستان واليمن -وكلا البلدين في وضع قابل للانفجار-. إدارة أوباما ليست غائبة عن ملاحقة «القاعدة» في باكستان أو داخل اليمن، إنما اليمن يتطلب معالجة أعمق، إذ إنه يقترب من التحول الى دولة مارقة مُصدِّرة لنوع جديد من التطرف والإرهاب قد يجعل منه صومال أو أفغانستان اخرى. السودان أيضاً قنبلة مؤقتة ستتطلب إزالة فتيل التفجير منه إجراء حديث معمق وجدي بين الصين والولاياتالمتحدة، حيث للاثنتين أدوار تمتد من المصالح النفطية الى لعب واشنطن دور عرّاب تقسيم السودان. العراق ليس حدثاً مضى، وإنما مازال مهدَّداً بالتقسيم والحرب الطائفية الأهلية. مصر تدخل مرحلة تاريخية خطيرة لن يفيد فيها أسلوب الإنقاذ عبر ضخ المال بعد فوات الأوان. إيران تشكل خنجراً في خاصرة الولاياتالمتحدة تخشى إدارة أوباما سحبه وتبذل قصارى جهدها لإبقائه على قدر عمقه، ففي إيران تضيع إدارة أوباما بين الترغيب والتهديد، ونحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعرّي إدارة أوباما نفسها، فهي لا تريد عملاً عسكرياً ضد ايران، وهي لا تريد تكبيل الجمهورية الإسلامية عبر مسمار العجلة الأساسي لها، أي حليفها السوري. أما في سورية، فإن ما يحدث هناك قد يرتد على إستراتيجية كل من القائمين على حملة إعادة انتخاب أوباما، وكذلك على إستراتيجية القائمين على إبقاء حكم بشار الأسد ونظام البعث، فمن هناك ربما يأتي الحدث الذي قد يجبر أوباما على الكف عن الهروب الى الوراء. أما إطالة الوضع الراهن، بكل ما فيه من تمادي النظام السوري في سياسة إنهاك المعارضة وإنهاك الأسرة الدولية، فإنه سيسفر في نهاية المطاف عن تنمية التطرف ونموه وحشاً خطيراً في هذه المنطقة المهمة إستراتيجياً، ولن تفيد عندئذ سياسة دفن الرؤوس في الرمال. سورية محطة مهمة للحملة الانتخابية لباراك أوباما مهما تمنى القائمون على الحملة تحييدها أو تفاديها، ففي سورية تتقاطع العلاقة الأميركية-الإيرانية والعلاقة الأميركية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات، ذلك ان السياسة الأساسية التي اعتمدتها هذه الدول عازمة على عدم التعايش مع النظام السوري تحت أي ظرف كان من جهة، ومن جهة أخرى، ان بعض هذه الدول، والسعودية بالذات، تقرأ السياسة التي تقوم على التعايش مع النظام في دمشق على انها سياسة المحافظة على النظام في طهران ودعم الملالي حتى في طموحات الهيمنة الإقليمية التي لطالما راودتهم. صحيح ان العلاقة الأميركية-السعودية لن تتدهور الى الحضيض بسبب الأسباب الإستراتيجية والتاريخية المتعددة في هذه العلاقة. انما عمق الفجوة بخصوص سورية سيترك أثره بالغاً إذا أسفرت سياسة إدارة أوباما عن دعم بقاء النظام في دمشق وتشجيع النظام في طهران على المضي بنهجه، فهذا ليس خلافاً عابراً. والمملكة العربية السعودية لن تتمكن من التراجع عما آلت اليه سياساتها، سيما بعدما -ولأول مرة- جعلتها علنية وواضحة وعازمة، فالقضية وجودية للرياض في ما يتعلق بالجمهورية الإسلامية في إيران، وبالتالي من المفيد لإدارة أوباما ألا تأخذ الأمور على انها «بزنس كالعادة»، فلقد طرأ تغيير على السياسة السعودية في السنتين الماضيتين يجب أخذه على محمل الجد والتعمق في أسبابه وأبعاده. فهذا بلد عربي مهم وله نفوذ ووزن يجب أخذهما بجدية عند رسم السياسة الأميركية نحو منطقة الشرق الأوسط. ثانياً، بغض النظر عن الموازين الإقليمية وصراع النفوذ في الشرق الأوسط، ان المسألة السورية داخلية أولاً، ولقد بدأت الانتفاضة الشعبية في سورية سلمية في البداية، الى ان واجهتها الآلة العسكرية القاتلة للنظام في دمشق. الآن، وبعدما وصل عدد الأرواح التي سقطت في سورية حوالى 11 ألفاً، ليس من المعقول التفكير بأن في قدرة النظام العودة -كالعادة- الى «بزنس»، فلقد تحطمت العلاقة التقليدية مع الحكم ومفاتيحه وهالته والخوف منه. لن يكون في الإمكان إعادة المياه الى مجاريها. الاختباء وراء الأمين العام السابق للأمم المتحدة، المبعوث المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية كوفي أنان، بات فاضحاً، فخطته قائمة على بقاء النظام وليس على تسليم مفاتيح النظام الى محاور من أجل صياغة عملية سياسية انتقالية. جامعة الدول العربية تدرك ذلك، كما تدرك انها تسلقت هبوطاً من قرارات 22 كانون الثاني (يناير)، التي قامت على أساس العملية السياسية الانتقالية. وضعت نفسها في أيادي كوفي أنان، الذي بدوره وضع نفسه خارج إطارها، فتصرف أساساً كمبعوث أممي أولاً، وكمبعوث عربي هامشياً. وحتى مع الأممالمتحدة، وضع كوفي أنان نفسه فوق الولاية أو المحاسبة. انه يرفض التوجه الى نيويورك لمخاطبة مجلس الأمن ويتصرف فوق ولاية من المجلس، لأن المجلس ليس الجهة التي أصدرت قرار إنشاء ولايته. يتصرف وكأنه أمين عام موازٍ للأمين العام بان كي مون -مع انه فعلياً مبعوث له وولايته أتت بقرار من الجمعية العامة-، ولذلك أنشأ انان أمماً متحدة مصغرة في جنيف، من حيث يعقد المؤتمرات وعلم الأممالمتحدة يرفرف وراءه. خطة أنان ليست سيئة، بالرغم من انها انطلقت من إبقاء النظام في دمشق وليس على أساس تسليمه مفاتيح السلطة الى حكم تعددي. السيء هو «طول نفس» أنان في وجه تمادي دمشق بالانتهاكات وعدم تنفيذ الوعود وتغيير قواعد اللعبة لدرجة السماح لأركان النظام السوري بتحديد خريطة الطريق وإملاء الشروط حول مَن يسير عليها والى أين. متى ينفد الصبر الذي تهدد به الإدارة الأميركية يومياً؟ البعض يقول ان المهلة الزمنية التي في ذهن كوفي أنان هي ال 90 يوماً التي أعطاها مجلس الأمن في قرار إنشاء بعثة المراقبين التي بدأت الوصول الى سورية، بل إن أنان طلب ميزانية لسنة كاملة بمبلغ 8 ملايين دولار لمهمته السياسية. نفاد الصبر لا يبدو أبداً في أفق أنان، فهو لا يريد فشل مهمته، وجاهز للتأقلم مع المعطيات بما يضمن عدم الفشل، أي أن انان ليس جاهزاً لمواجهة مع النظام في دمشق، بل هو أكثر جهوزية لتلبية طلب دمشق وموسكو بتحميل المعارضة المسؤولية. لكن الفارق كبير بين إلقاء القدر نفسه من اللوم على المعارضة، كما على النظام، في إطار العنف، وبين تقديم المساعدة الى أركان المعارضة لتشكيل جبهة سياسية للتفاوض لها صدقية. فريق أنان يقوم بالمهمتين، وهذا خطير، لأنه يمكّن النظام في دمشق من التملص من كونه المسؤول الأول عن العنف، وكذلك يعطيه فسحة التنفس وإعادة فرز أوراق «المحاور» فيما تنصبّ الجهود والضغوط على المعارضة. وللتأكيد، فإن رعاية الحوار بين أقطاب المعارضة واللاعبين الدوليين مسألة جداً ايجابية، لأن من الضروري لجم شهية أمثال الإخوان المسلمين للسيطرة على الحاضر والمستقبل في سورية، بناءً على فورة صعود الإسلاميين الى السلطة في المنطقة العربية. هنا، القلق والدور الروسيان في محلهما، نظراً لأن روسيا تجد نفسها مطوقة بخمس جمهوريات إسلامية لا تريد صعود الإسلاميين فيها الى السلطة. مثل هذه المشاغل الروسية يمكن توظيفها إيجابياً في التأثير على مواقف مختلف أطياف المعارضة السورية وطموحاتها. بل أصدر الإخوان المسلمون، ولأول مرة، بياناً قبل بضعة أسابيع يُعتبر ثورياً، إذ إنه انطوى على تعهدات لم يسبق أن قطعها الإخوان المسلمون على أنفسهم، من التعددية الى احترام حقوق الأديان الأخرى في الحكم وفي المجتمع. مثل هذه المواقف تتطلب تقنينها في شبه ضمانات كي يكون في الإمكان طمأنة أطراف المعارضة الآخرين وليس فقط أولئك الذين يتخوفون من تملك الإخوان المسلمين السلطة واستفرادهم بها. نائب المبعوث الأممي العربي المشترك، ناصر القدوة، يلعب دوراً مع المعارضة وما بين أطرافها. دول أخرى عيّنت خبراء رفيعي المستوى للمساعدة في تجهيز المعارضة سياسياً. إنما واقع الأمر يبقى ان السلطات السورية ترفض حتى استقبال، أو الاعتراف بناصر القدوة نائباً لكوفي أنان. واقع الأمر ان إجراءاتها على الأرض تنهك المعارضة وتدمر بنيتها التحتية فيما العالم ينتظر تقريراً آخر من كوفي أنان. الدول الكبرى منقسمة، وزير خارجية فرنسا ألان جوبيه يتحدث عن الفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن الذي يتضمن فرض عقوبات أو ممرات إنسانية آمنة على سورية، وزارة الخارجية البريطانية استدعت المساهمات في تشكيل ملف يسجل تجاوزات وانتهاكات النظام السوري، تهيئةً لإحالته على المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، أما الإدارة الأميركية، فإنها أحياناً تتحدث بنبرة «بدأ صبرنا ينفد»، وبتكرار بلا ترجمة فعلية، وأحياناً أخرى تعمل بجدية وراء الكواليس للجم الدول العربية التي تريد تسليح المعارضة أو إنشاء ممرات آمنة، وذلك باسم العملية السياسية والخوف من الحرب الأهلية ومن... القاعدة. أما حلف شمال الأطلسي، فحدِّث ولا حرج، انه يتعهد للنظام في دمشق بأنه لن يوجه ضربة عسكرية مهما حصل. كل هذا لا ينفي ما يحدث وراء الكواليس من استعدادات لمرحلة ما بعد الفيتو الروسي الثالث أو الرابع أو الخامس في مجلس الأمن، بعد إنهاك الصبر والديبلوماسية، فالكلام يزداد على إنشاء تجمع للدول لن يحتاج قراراً لمجلس الأمن للتدخل العسكري ولن يرضخ الى الفيتو الروسي أو الصيني كما حدث في يوغوسلافيا السابقة. البعض يقول إنه كان أجدى لكوفي أنان لو بدأ سياسة الترغيب مع بشار الأسد بعدما تحرك بغموض وجدية في مقر حلف شمال الأطلسي، وكذلك في تركيا، لكانت الرسالة واضحة وقوية. البعض الآخر يقول ان إصرار أنان على إيفاد بعثة المراقبين من 300 عنصراً حتى بعدما تراجعت الحكومة السورية عن تعهداتها بسحب جيشها من الثكنات وإخلاء المراكز السكنية انما يهدد أرواح المراقبين ويجعل من المسألة قنبلة موقوتة. بغض النظر عن صحة هذا أو ذاك، فإن دخول مراقبين دوليين عقر الدار السورية قد يؤدي الى إنهاك النظام، ذلك انه بات تحت المراقبة. لكن التصدي لسياسة دمشق القائمة على إنهاك المعارضة وانهاك السياسة الدولية يتطلب بالتأكيد كف إدارة أوباما عن إرباك الآخرين، حيناً بتعهد خالٍ من الأسنان، على نسق حان وقت رحيل الأسد، أو بدأ نفاد الصبر، وحيناً آخر بظهور هذه الإدارة في حاجة ماسة الى إقناع الطرفين –الحكومة والمعارضة– بإبعاد ملف سورية عن الانتخابات الأميركية، فواشنطن تريد تأجيل الثورة وتأجيل مسيرة التغيير في المنطقة العربية الى ما بعد الانتخابات. لكن العالم لن يتوقف بالضرورة، فالتأجيل والمماطلة قد يرتدان على منطقة الشرق الأوسط والولاياتالمتحدة وسواساً ووحشاً لجمه سيكون مكلفاً.