سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصراع على الشرق الأوسط: الغاز أولاً وأخيراً
نشر في الحياة يوم 15 - 12 - 2011

في وقت بدا فيه أن ثمة تداعياً في دول اليورو وسط أزمة اقتصادية أميركية بالغة الدقة أوصلت أميركا إلى حجم دين عام مقداره 14.94 تريليون دولار، أي بنسبة 99.6 في المئة من الناتج الإجمالي (GDP) في وقت وصل فيه النفوذ الأميركي العالمي إلى حد ضعيف جداً في مواجهة قوى صاعدة كالصين والهند والبرازيل، بات واضحاً أن البحث عن مكمن القوة لم يعد في الترسانات العسكرية النووية وغير النووية، إنما هناك ... حيث توجد الطاقة. وهنا بدأ الصراع الروسي – الأميركي يتجلى في أبرز عناصره.
لقد تلمس الروس بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن الصراع على التسلح قد أنهكهم وسط غياب عن عوالم الطاقة الضرورية لأي دولة صناعية، فيما كان الأميركيون يتحركون في مناطق النفط عبر عقود عدة مكنتهم من النمو ومن السيطرة على القرار السياسي الدولي بلا منازعات كبيرة. ولهذا تحرك الروس باتجاه مكامن الطاقة (النفط والغاز). وعلى اعتبار أن القسمة الدولية لا تحتمل المنافسة في قطاعات النفط كثيراً، عملت موسكو على السعي إلى ما يشبه (احتكار) الغاز في مناطق إنتاجها أو نقلها وتسويقها على نطاق واسع.
كانت البداية عام 1995 حين رسم الرئيس فلاديمير بوتين إستراتيجية شركة «غاز بروم» لتتحرك في نطاق وجود الغاز من روسيا فأذربيجان فتركمانستان فإيران (للتسويق) وصولاً إل منطقة الشرق الأوسط (مؤخراً)، وكان من المؤكد أن مشروعي السيل الشمالي والسيل الجنوبي سيكونان وسام الاستحقاق التاريخي على صدر بوتين من أجل عودة روسيا إلى المسرح العالمي ومن أجل استعادة دورها كدولة أولى أو ثانية في الترتيب الدولي ومن أجل إحكام السيطرة على الاقتصاد الأوروبي الذي سيعتمد لعقود على الغاز بديلاً من النفط أو بالتوازي معه ولكن بأولوية أكبر لمصلحة الأول. وهنا كان على واشنطن أن تسارع إلى تصميم مشروعها الموازي (نابكو) لينافس المشروع الروسي على قسمة دولية على أساسها سيتعين القرن المقبل سياسياً واستراتيجياً.
يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين سواء من حيث البديل الطاقي لتراجع احتياطي النفط عالمياً أو من حيث الطاقة النظيفة. ولهذا، فإن السيطرة على مناطق الاحتياطي (الغازي) في العالم يعتبر بالنسبة للقوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية.
واضح أن روسيا قد قرأت الخريطة وتعلمت الدرس جيداً. فسقوط الاتحاد السوفياتي حصل بسبب غياب موارد الطاقة العالمية عن سيطرته، لتضخ إلى البنى الصناعية المال والطاقة، وبالتالي البقاء، ولذلك تعلمت أن لغة الطاقة القادمة إلى القرن الواحد والعشرين على الأقل هي لغة الغاز.
بقراءة أولية لخريطة الغاز نراها تتموضع في المناطق التالية من حيث الكم والقدرة على الوصول إلى مناطق الاستهلاك:
1- روسيا انطلاقاً من فيبرغ (Vyborg) وبيري غوفيا )
Beregovya)
2- الملحق الروسي: تركمانستان.
3- المحيط الروسي القريب والأبعد: أذربيجان وإيران.
4- «المقنوص» من روسيا: جورجيا.
5- منطقة شرق المتوسط (سورية، لبنان)
6- قطر ومصر ...
على هذا سارعت موسكو للعمل على خطين استراتيجيين، الأول التأسيس لقرن روسي-صيني (شنغهاييّ) يقوم على أساس النمو الاقتصادي لكتلة شنغهاي من ناحية، والسيطرة على منابع الغاز من ناحية أخرى.
وبناء عليه، فقد أسست لمشروعين، أولهما، مشروع السيل الجنوبي، وثانيهما مشروع السيل الشمالي. وذلك في مواجهة مشروع أميركي لاقتناص غاز البحر الأسود وغاز أذربيجان، وهو مشروع نابوكو (Nabucco).
سباق استراتيجي بين مشروعين للسيطرة على أوروبا من ناحية وعلى مصادر الغاز من ناحية أخرى.
مشروع نابوكو مركزه آسيا الوسطى والبحر الأسود ومحيطه، وموقعه المُخزِّن هو (تركيا) ومساره منها إلى بلغاريا فرومانيا ثم هنغاريا فالتشيك وكرواتيا وسلوفينيا فإيطاليا. وكان من المقرر أن يمر باليونان، وهذا تم غض الطرف عنه كُرمى لتركيا.
المشروع الروسي في شقيه الشمالي والجنوبي يقطع الطريق عبر الآتي:
أ- السيل الشمالي (Nord Stream) وينتقل من روسيا إلى ألمانيا مباشرة ومن فاينبرغ إلى ساسنيتز عبر بحر البلطيق دون المرور ببيلاروسيا، وهو ما خفف الضغط الأميركي عليها.
ب- السيل الجنوبي (South Stream): ويمر من روسيا إلى البحر الأسود فبلغاريا ويتفرع إلى اليونان فجنوب إيطاليا وإلى هنغاريا فالنمسا.
المفروض أن يسابق مشروع (نابوكو) المشروعين الروسيين إلا أن الأوضاع التقنية أخرته إلى عام 2017 بعد أن كان مقرراً عام 2014، ما جعل السباق محسوماً لمصلحة روسيا، في هذه المرحلة بالذات، ما يستدعي البحث عن مناطق دعم رديفة لكل من المشروعين وتتمثل في:
1- الغاز الإيراني الذي تصرّ الولايات المتحدة على أن يكون رديفاً لغاز نابوكو ليمر في خط مواز لغاز جورجيا (وإن أمكن أذربيجان) إلى نقطة التجمع في (Erzurum) ارضروم في تركيا.
2- غاز منطقة شرق المتوسط (إسرائيل ولبنان وسورية).
وبالقرار الذي اتخذته إيران ووقعت اتفاقياته لنقل الغاز عبر العراق إلى سورية في تموز(يوليو) 2011 تصبح سورية بؤرة منطقة التجميع والإنتاج بالتضافر مع الاحتياطي اللبناني، وهو فضاء جيوستراتيجي – طاقي يُفتح لأول مرة جغرافياً من إيران إلى العراق إلى سورية فلبنان، وهو ما كان من الممنوعات وغير المسموح بها لسنين طويلة خلت؛ الأمر الذي يفسر حجم الصراع على سورية ولبنان في هذه المرحلة وبروز دور لفرنسا التي تعتبر منطقة شرق المتوسط منطقة نفوذ تاريخية ومصالح (لا تموت!!)، وهو دور لا ينسجم مع طبيعة الغياب الفرنسي منذ الحرب العالمية الثانية. ما يعني أن فرنسا تريد أن يكون لها دور في عالم (الغاز) حيث اقتطعت لنفسها بوليصة تأمين بخصوصه في ليبيا، وتريد بوليصة تأمين على الحياة به في كل من سورية ولبنان.
في هذا الوقت تشعر تركيا أنها ستضيع في بحر صراع الغاز طالما أن مشروع نابوكو متأخر ومشروعي السيل الشمالي والجنوبي يستبعدانها وفيما غاز شرق المتوسط بات بعيداً من نفوذ نابوكو وبالتالي تركيا.
تاريخ اللعبة
من أجل مشروع السيل الشمالي والسيل الجنوبي أسست موسكو شركة «غاز بروم» في أوائل النصف الأول من تسعينات القرن العشرين. واللافت أن ألمانيا التي تريد أن تخلع عنها أسوار ما بعد الحرب العالمية الثانية هيأت نفسها لتكون طرفاً وشريكاً في هذا المشروع؛ إن من حيث التأسيس أو من حيث مآل الأنبوب الشمالي أو من حيث مخازن السيل الجنوبي التي تقع في المحيط الجرماني وتحديداً النمسا.
غازبروم
تأسست شركة «غازبروم» بالتعاون مع صديق ألماني لموسكو يدعى (هانز جوشيم غوينغ) الذي شغل منصب نائب رئيس سابق لشركة صناعة الغاز والنفط الألماني وهو الذي أشرف على بناء شبكة خطوط الأنابيب التابعة لشركة (GDR). وقد ترأس غاز بروم (حتى تشرين الأول/أكتوبر عام 2011) فلاديمير كوتينيف (وهو سفير روسي سابق في ألمانيا).
وقعت الشركة صفقات نوعية ومريحة جداً مع شركات ألمانية وعلى رأسها الشركات المتعاونة مع السيل الشمالي كشركة (E.ON) العملاقة للطاقة وشركة (BASF) العملاقة للكيماويات، حيث تأخذ شركة (E.ON) تفضيلات لشراء كمية من الغاز على حساب شركة غازبروم، عندما ترتفع أسعار الغاز ما يعتبر مثابة دعم (سياسي) لشركات الطاقة الألمانية.
واستفادت موسكو من تحرر أسواق الغاز الأوروبية من الاحتكار لإرغام تلك الأسواق على فك الارتباط بين شبكات التوزيع ومنشآت الإنتاج.
هذا الاشتباك بين روسيا وبرلين يطوي صفحة من العداء التاريخي ليرسم صفحة أخرى من التعاون على أساس الاقتصاد والتنصّل من ثقل تنوء به ألمانيا وهو ثقل أوروبا المتخمة بالديون والتابعة للولايات المتحدة، فيما ترى ألمانيا أن المجموعة الجرمانية (ألمانيا والنمسا والتشيك وسويسرا) هي الأولى بأن تشكل نواة أوروبا، لا أن تتحمل النتائج المترتبة على قارة عجوز وعملاق آخر يتهاوى.
وواقع الحال أن الصلات الاستراتيجية عبر الغاز تجعل الصلات أكثر إستراتيجية في قطاعات السياسة حيث يمتد تأثير موسكو على الحزب الاجتماعي الديموقراطي الألماني في ويستفاليا شمالي نهر الراين حيث توجد القاعدة الصناعية الرئيسة لفرعي شركتي (RWE) للكهرباء المرتبطة مع روسيا بوثاقة (E.ON).
في كل مرة يعاند فيها الأوروبيون ألمانيا وسياستها مع روسيا (الطاقية) تؤكد برلين أن خطط أوروبا (يوتوبية) غير قابلة للتنفيذ وقد تدفع روسيا لبيع غازها في آسيا وهذا سيطيح الأمن الطاقي في أوروبا.
وواقع الحال أن هذا الاشتباك الروسي – الألماني لم يكن من النوع الساذج عندما استثمر (بوتين) تراث الحرب الباردة من وجود روسي للناطقين بالروسية في ألمانيا والبالغ عددهم ثلاثة ملايين، وهم يشكلون ثاني أكبر جماعة بعد الأتراك، إضافة إلى شبكة من المسؤولين الألمان الشرقيين الذين تم توظيفهم لرعاية الشركات الروسية في ألمانيا ومصالحها، فضلاً عن عدد من عملاء جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي السابق ومنهم على سبيل المثال مدير جرمانيا غازبروم لشؤون الموظفين وشؤون التمويل، ومدير اتحاد (السيل) المالي هاينس وورينغ، وهو ضابط سابق في جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي والذي نقلت «وول ستريت جورنال» أنه قدم لبوتين حين كان في جهاز الأمن الروسي (KGB) المساعدة لتوظيف جواسيس في مدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية.
ولكن وللإنصاف، فإن واقع الحال يقول: إن استثمار روسيا (للعلاقات) السابقة لم يكن فجاً بل كان لمصلحة ألمانيا ككل، الأمر الذي يمنع الصدام باعتبار أن المصلحة بين الطرفين متحققة، دون هيمنة.
السيل الشمالي: يشكل مشروع السيل الشمالي عنصر الربط الرئيس بين روسيا وألمانيا. وتبلغ تكلفة خط الأنابيب 4.7 مليار يورو وقد تم تدشينه مؤخراً. وعلى الرغم من أنه يصل روسيا بألمانيا إلا أن إدراك الأوروبيين أن هذا المشروع سيكون جزءاً من الأمن الطاقي، جعل هولندا وفرنسا تسارعان لإعلانه مشروعاً أوروبياً.
في سياق كل ما سبق، تشغّل غازبروم منشآت للغاز في النمسا في المحيط الاستراتيجي الجرماني، كما أنها تؤجر منشآت في بريطانيا وفرنسا. إلا أن منشآت التخزين المتزايدة في النمسا ستكون محوراً لرسم الخريطة الطاقية لأوروبا في جزء مهم إذ أنها ستزود الأسواق السلوفينية والسلوفاكية والكرواتية والهنغارية والإيطالية وبعضاً من الألمانية بالتضافر مع مخزن أُعِدَّ حديثاً يدعى (كاترينا) تقوم شركة غازبروم ببنائه بالشراكة مع ألمانيا لتوريد الغاز إلى مراكز أوروبا الغربية.
وقد أقامت شركة غازبروم مشروع منشأة تخزين مشترك مع صربيا لتصدير الغاز إلى البوسنة والهرسك وجزءٍ من النمسا فضلاً عن صربيا نفسها، وقد أجريت دراسات لجدوى اقتصادية لعدد من مشاريع التخزين المماثلة في جمهورية التشيك ورومانيا وبلجيكا وبريطانيا وسلوفاكيا وتركيا واليونان وحتى فرنسا. وبهذا ستحصن موسكو موقعها كمزود ل 41 في المئة من احتياجات أوروبا للغاز، ما يعني تغييراً جوهرانياً في علاقات الشرق بالغرب على المديين القريب والمتوسط أولاً ثم البعيد ثانياً، وهو ما يعني تراجعاً للنفوذ الأميركي أو صداماً يُهيَّأ له في أحد جوانبه بالتضافر مع اعتبارات الدرع الصاروخية لتأسيس نظام عالمي جديد سيكون (الغاز) في صلب عوامل تشكيله. وهذا ما يفسر حجم الصراع في منطقة شرق المتوسط على الغاز الجديد.
نابوكو في مأزق
صممت نابوكو لنقل الغاز من تركيا إلى النمسا عبر 3900 كم ولتمرير 31 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً من منطقة (الشرق الأوسط) وقزوين إلى الأسواق في أوروبا. ولعل اللهاث الأميركي-الفرنسي (الناتوي) وراء حسم الأمور في منطقة شرق المتوسط وتحديداً (سورية ولبنان) يكمن في ضرورة تأمين أوضاع هادئة وموالية لاستثمار ونقل الغاز، وهو ما ردت عليه سورية بتوقيع عقد لتمرير الغاز من إيران إلى سورية عبر العراق، والغاز اللبناني والسوري هو محور الصراع من أجل إما إلحاق هذا الاحتياطي بغاز نابوكو أو بغازبروم وبالتالي السيل الجنوبي.
ولعل أكثر ما يشكل خطراً على نابوكو هو أن تقوم روسيا بقتل ودفن الأخير من خلال التفاوض على عقود أكثر أفضلية وتنافسية لإمدادات الغاز لتصب في غازبروم بسيليها الشمالي والجنوبي، وقطع الطرق عن أي نفوذ (طاقي) وسياسي في كل من إيران وشرق المتوسط، فضلاً عن أن تكون غازبروم من أهم مستثمري أو مشغّلي حقول الغاز الحديثة العهد في كل من سورية ولبنان، إذ لم يكن اختيار التوقيت في 16/8/2011 عابراً كي تعلن وزارة النفط السورية عن اكتشاف بئر غاز في منطقة قارة وسط سورية وقرب حمص بما يحقق إنتاجية بقدرة 400 ألف متر مكعب يومياً أي ما يعادل 146 مليون متر مكعب سنوياً، دون أي حديث عن غاز البحر الأبيض المتوسط.
لقد خفف مشروعا السيل الشمالي والجنوبي من أهمية السياسة الأميركية التي بدا أنها تتراجع إلى الخلف، فيما تراجعت آثار الكُره الكامنة بين دول أوروبا الوسطى وروسيا، إلا أن بولندا لا يبدو أنها ستخرج من اللعبة سريعاً.
ولا يبدو أن الولايات المتحدة مستعدة للتراجع، إذ أعلنت في أواخر تشرين الأول(أكتوبر) 2011 عن التحول المتمثل في سياسات الطاقة بسبب اكتشاف مناجم الغاز الحجري في أوروبا لتقليل الاعتماد على روسيا... والشرق الأوسط. ولكن يبدو أن هذا أملاً بعيد المنال أو المدى، إذ ثمة العديد من الإجراءات قبل الوصول إلى الإنتاج التجاري من مصادر غير تقليدية كمناجم الغاز الحجري الموجود في الصخور على عمق آلاف الأقدام تحت الأرض.
الصين على الخط
يُشكل التعاون الروسي – الصيني في مجال الطاقة القوة الموجهة للشراكة الاستراتيجية الصينية – الروسية، وهو ما يراه الخبراء رائزاً يقف وراء الفيتو المشترك لمصلحة سورية في مجلس الأمن.
إن التعاون في مجال الطاقة هو (شحم) تسريع الشراكة بين العملاقين، والأمر يتعدى إمداد الغاز بأفضليات للصين إلى المشاركة في توزيعه عبر (بيع الأصول والمنشآت الجديدة) ومحاولات السيطرة المشتركة على الإدارات التنفيذية لشبكات توزيع الغاز، حيث تقدم موسكو حالياً عرضاً بالمرونة في أسعار إمدادات الغاز شريطة أن يسمح لها بالدخول إلى الأسواق الصينية المحلية لأن الأرباح تكمن في الداخل الصيني. ولهذا تم الاتفاق على أن الخبراء الروس والصينيين يستطيعون العمل معاً في الاتجاهات الآتية: «تنسيق استراتيجيات الطاقة في البلدين، والتنبؤ، ورسم السيناريوات المستقبلية، وتنمية البنية التحتية للسوق، وفعالية الطاقة، ومصادر الطاقة البديلة.
وهنالك فضلاً عن التعاون في الطاقة مصالح إستراتيجية أخرى تتمثل في التصور المشترك الروسي – الصيني في مخاطر المشروع الأميركي المسمى بالدرع الصاروخية، ذلك أن واشنطن تشرك اليابان وكوريا الجنوبية في ذلك المشروع. ولا تكتفي بذلك، بل إنها وجهت دعوة إلى الهند في أوائل أيلول( سبتمبر) 2011 من أجل أن تصبح شريكاً في البرنامج نفسه. كما تتقاطع مخاوف موسكو وبكين من تحرك واشنطن لإعادة إحياء إستراتيجية آسيا الوسطى (طريق الحرير)، وهو نفس توجه مشروع آسيا الوسطى الكبير الذي طرحه جورج بوش الأب لدحر النفوذ الروسي والصيني بالتعاون مع تركيا لحسم الموقف في أفغانستان عام 2014 وترتيب النفوذ (الناتوي) هناك والإشارات المتزايدة لرغبة أوزبكستان للقيام بدور المضيف للناتو في هذا المشروع. وهنا يقدِّر بوتين بأن ما يمكن أن يحبط غزو الغرب في شكل أساسي للرواق الخلفي الروسي لأسيا الوسطى هو اتساع الفضاء الاقتصادي الروسي المشترك مع كازاخستان وبيلاروسيا بالتعاون مع بكين بالنسبة لكازاخستان، وهو مشروعه الرئيس في رئاسته المتوقعة ربيع عام 2012. هذه الصورة لآليات الصراع الدولي تفسح في المجال أمام رؤية جانب من عملية تشكيل النظام العالمي الجديد على أرضية الصراع على النفوذ العسكري وعلى أرضية (القبض) على روح العصر: الطاقة وعلى رأسها الغاز.
* رئيس مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية في دمشق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.