بدأت الخريطة الشيعية في العراق ترسم ملامح جديدة على المستويين السياسي والمرجعي الديني نتيجة تباين الرؤى حيال قضايا سياسية داخلية وخارجية، منها كيفية إدارة البلاد والموقف من الأزمة السورية، فيما نلاحظ التأثير الكبير للصراع الحوزوي بين النجف وقم في توزيع هذه الخريطة وتشكيلها. منذ أول انتخابات دستورية مطلع عام 2006 انطلق السباق نحو الزعامة بين المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، بزعامة عبدالعزيز الحكيم آنذاك والد عمار، وحزب الدعوة الإسلامية، بقيادة إبراهيم الجعفري، واشتدت المنافسة بينهما، ووصلت الخلافات داخل الائتلاف الشيعي إلى درجة عدم النجاح بالتوافق على تسمية شخصية إلى منصب رئيس الوزراء، على رغم تدخل المرجعيات الشيعية في النجف وقم لحل المسألة في شكل ودي كما جرى عام 2005 عندما جمع السفير الإيراني في بغداد وقتها مرشحي الشيعة إلى المنصب أحمد الجلبي والجعفري وانتهى بتنازل الأول إلى الثاني، ما دفع الجميع إلى الاتجاه نحو مبدأ التصويت، الذي فاز فيه أول مرشح للدعوة، الجعفري، على منافسه عادل عبد المهدي بفارق صوت واحد الذي تحول فيما بعد إلى صدى في وادي التاريخ المشترك للحزبين، وعمق الهوة بين آل الحكيم وزعيم التيار الصدري الذي صوتت كتلته لمصلحة خصمه. لكن الحكيم الأب نجح لما يمتلكه من «كاريزما»، بأن يجعل من حزبه حليفاً لا تستغني عنه الحكومة الجديدة الذي شكلها الوجه الجديد نوري المالكي بعد رفض الأكراد التجديد للجعفري واتهموه بالعمل على تهميش دورهم ما استدعى تغيير المرشح الأول، لكن هذا التحول الدراماتيكي لم يمر بسلام ودفع «الدعوة» ثمن ذلك انشقاق الأخير عنه وتشكيل حزب «الإصلاح الوطني». مع تفجر الاقتتال الطائفي ربيع عام 2006 حاول «المجلسيون» تهيئة الساحة السياسية الشيعية مجدداً أمام طموحاتهم من خلال دفعهم المالكي باتجاه تقليم أظافر الصدريين الذين تنامى نفوذهم في المحافظات الجنوبية وتحول ميليشياتهم «جيش المهدي» إلى جماعات تعمل لمصلحة أحزاب من الطائفة نفسها وأخرى مع إيران. وتوجت تلك المرحلة ربيع عام 2008 في حملة عسكرية واسعة بقيادة المالكي شخصياً انطلقت من البصرة لتشمل جميع المحافظات الجنوبية لتنتهي في بغداد. هذه المرحلة جعلت المالكي بطلاً قومياً فوق أية شبهات طائفية، فاتجه إلى استثمار هذا الإنجاز بدفع عدد من قيادات الصدر على التمرد والانشقاق على زعيمهم وتشكيل حركات سياسية مثل «التيار الرسالي» للنائب الحالي عدنان الشحماني ووزير الصحة في حكومة الجعفري عبد المطلب محمد صالح، وضمها إلى كتلته في الانتخابات السابقة، كما عمل على دعم فصائل مسلحة انشقت عن «جيش المهدي» مثل «عصائب أهل الحق» بقيادة الشيخ قيس الخزعلي، في ما اعتبره حزب الدعوة المسمار الأخير في نعش الصدر، وقرر خوض الانتخابات المحلية في كتلة «دولة القانون» التي اكتسحت الجنوب على حساب آل الحكيم والصدر وانتزعت منهما محافظات الناصرية والسماوة والحلة وواسط والعمارة. نهاية آب (أغسطس) 2009 اختفى الحكيم الأب عن الساحة، مع اقتراب استحقاق وطني أكبر وهو الانتخابات التشريعية الوطنية، في آذار (مارس) 2010 بقي حزبه بيد الصقور الخمسة الذين اختاروا نجله عمار خليفة له وهم: عبد المهدي، هادي العامري، زعيم منظمة بدر باقر جبر صولاغ وزير المال آنذاك الشيخ همام حمودي والشيخ جلال الدين الصغير، الأكثر غضباً على «دولة القانون»... قرر المالكي ومساعدوه خوض الانتخابات بقائمة خاصة بهم بعيداً من آل الحكيم والصدر وحزب الفضيلة الإسلامي التابع لرجل الدين الشيخ محمد اليعقوبي والسياسي العراقي المعروف أحمد الجلبي وحزب الدعوة الإسلامية (الداخل) برئاسة وزير الأمن الوطني الأسبق عبدالكريم العنزي، الذي انشق عن جناح الدعوة تنظيم العراق، بزعامة نائب رئيس الجمهورية الحالي خضير الخزاعي، بعد الانتخابات المحلية، في «الائتلاف الوطني العراقي» وفشلت كل محاولاتهم لتوحيد الائتلافين قبل التصويت بما فيها التدخل الإيراني بسبب رفض «دولة القانون». بعد الانتخابات لم تجرِ الرياح بما يشتهي ربابنة «دولة القانون» وانتهت الانتخابات بحصولهم على 89 مقعداً، وتخلف كتلتهم عن المركز الأول أو كما يسميها الدستور «الأكثر عدداً» بفارق مقعدين لمصلحة الغريم التقليدي «ائتلاف العراقية» (91 مقعداً)، بزعامة السياسي البارز أياد علاوي الذي يحظى بدعم دول عربية بينها سورية التي حاولت الانتقام من المالكي بعد أن اتهمها بالضلوع في هجمات عنف طاولت وزارات وهيئات حكومية في بغداد راح ضحيتها المئات وطالب وقتها بفتح تحقيق دولي ضد نظام بشار الأسد، ما وضع المالكي وحلفاءه في مأزق كبير وضعهم والشيعة على مفترق طريق مع السلطة وتحول الرفض السابق جهوداً حثيثة للاندماج مع «الائتلاف الوطني» (70 مقعداً)، انتهت بقيام «التحالف الوطني العراقي» على أن يتقاسما النفوذ فيه مناصفة بعيداً من عدد المقاعد، الأمر الذي فتح باب الأمل مجدداً لدى «المجلسيين» بصولة جديدة للمنافسة على منصب رئيس الوزراء. للضغط على باقي مكونات «التحالف» راح الحكيم الابن يلعب بورقة التحالف مع «العراقية»، لكن التوافق غير المعلن بين الأميركيين والإيرانيين على التجديد للمالكي، دفع هادي العامري، زعيم «منظمة بدر» الجناح العسكري للحكيم، إلى التغريد خارج سرب «المجلسيين» وإعلان دعمه المالكي، متمرداً على حزب الحكيم ليتراجع حجمه الانتخابي من 20 مقعداً إلى 11، كما نجح الجلبي، باستمالة نواب من «العراقية»، وإظهار القائمة ضعيفة أدى إلى تراجع سورية في موقفها الداعم لها، وتحول فيما بعد إلى خصم من الدرجة الأولى ل «دولة القانون»... كل هذه العناصر مهدت الطريق أمام الحكومة الحالية. الخريطة الشيعية الحكيم وجد نفسه رهينة بيد الإيرانيين بعدما دعموا تمرد جناحه العسكري «بدر» وحجبوا معونات مالية كانت تصله منهم، وأعلن عادل عبد المهدي الذي حصل على منصب نائب رئيس الجمهورية استقالته انسجاماً مع موقف «المرجعية» تجاه السلطة التي لم تقدم الخدمات للمواطن محاولاً كسب ود الجمهور من جهة وتهيئة شخصية تحظى بقبول كبير لتحل على رأس الحكومة الجديدة، ما وضع «المجلس الأعلى» في خندق المواجهة مع إيران التي جاهدت من أجل الإبقاء على المالكي. رافق هذه المرحلة حراك في النجف مفاده أن مرجعية قم تعد آية الله محمود الهاشمي الشهرودي، أحد أبرز مراجعها بعد الخامنئي لخلافة السيستاني والإطباق على الواقع الشيعي بأكمله، فوجد الصقور الأربعة الفرصة مناسبة لكسر طوق مرجعيته السابقة، ولاية الفقيه الخامنئي والاتجاه إلى تقليد المرجع الشيعي آية الله محمد سعيد الحكيم، كنوع من رد الصاع للقميين من جهة واستباق الأمور ليلعبوا دور «أبناء المرجعية» في الشارع السياسي الشيعي في مرحلة ما بعد السيستاني كون آية الله الحكيم هو الأقرب لتزعم الحوزة العلمية في النجف خلال المرحلة المقبلة، في المقابل سارع الشيخ محمد اليعقوبي إلى الانضمام إلى ركب الشهرودي ليقفز بحزب الفضيلة من «الائتلاف الوطني» إلى «دولة القانون» حليفاً جديداً للمالكي. انضم الحكيم حليفاً سياسياً إلى النجف وغير معلن إلى الصدر في صراعه مع المالكي الذي واجهه النزاع الخفي والأكثر حدة الذي يتمثل بتصديه إلى التدافع التاريخي بين مرجعيات المذهب الشيعي، وفيما إذا كانت الغلبة في مشيخته تنتهي إلى «القميين – نسبة إلى قم» أو «النجفيين – نسبة إلى النجف». وهنا يبرز صراع قومي خفي بين علماء الدين، فالنجف تمثل «الخط العروبي» للطائفة، وقم رمز لهيمنة «الإيرانيين» على مقدرات الشيعة، وفي تصريحات أخيراً أكد النائب حامد الخضري، القيادي في «المجلس الأعلى» أن حزبه لن يتحالف مع «دولة القانون» في انتخابات مجالس المحافظات. وفي قراءة للاصطفافات التي حصلت أخيراً داخل «التحالف الوطني» الذي يضم القوى الإسلامية الشيعية فإن القوى التي ترتبط بمرجعية آية الله محمود الشهرودي، المرشح لخلافة مرشد الثورة الإيراني علي الخامنئي، هي حزب الدعوة الإسلامية - المقر العام ورئيسه المالكي، وتنظيم العراق، بقيادة هاشم الموسوي، وأبرز قياداته نائب رئيس الجمهورية خضير الخزاعي، وتنظيم الداخل، وأمينه العام عبدالكريم العنزي، ومنظمة بدر، التي يرأسها وزير النقل هادي العامري وحزب الفضيلة ومؤسسه آية الله اليعقوبي، و «عصائب أهل الحق» أحد فصائل «جيش المهدي»، و «كتائب حزب الله العراقي» تشكيل عسكري انشق أيضاً عن الصدر. خلافات «النجف» و «قم» والموقف من سورية تفيد تسريبات حصلت عليها «الحياة» بأن المرجع الشيعي الأعلى في النجف آية الله علي السيستاني يتحاور حالياً مع أطراف في المعارضة السورية حول فترة ما بعد الأسد، وأشارت المعلومات إلى أن هذا التوجه يحظى بدعم سياسي من رجل الدين مقتدى الصدر والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي. وكشف مصدر من داخل أحزاب عراقية مؤيدة للنظام السوري في تصريح إلى «الحياة» أن آية الله السيستاني وضعنا في موقف محرج عندما فتح حواراً مع معارضين للأسد. ورداً على سؤال حول طبيعة هذه الأطراف والقضايا التي يتم التحاور في شأنها قال: «المشكلة حالياً أن الجميع لا يعرف ماذا يدور وتجرى الاتصالات بسرية تامة ما أربك مخططاتنا مع الإيرانيين في دعم النظام وإلى أي مدى يمكن التنسيق بيننا لتجاوز أية تقاطعات». وتأتي هذه التسريبات مع إعلان أحد مساعدي السيستاني أحمد الصافي في السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي خلال خطبة الجمعة أن المرجعية قررت تزويد اللاجئين السوريين في العراق بمستلزمات الشتاء وسيتم توزيعها بالتنسيق مع مجلس محافظة الأنبار التي تحتضن مخيماتهم. وتتزامن مع دعوات أطلقها نائب رئيس الجمهورية السابق، عادل عبد المهدي، القيادي في «المجلس الأعلى الإسلامي العراقي»، دعوة الحكومة العراقية إلى الترحيب والتعامل الإيجابي مع المعارضة السورية بعد انتخاب معاذ الخطيب رئيساً ل «الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة» السورية. وقال عبد المهدي أخيراً في تعليقات على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»: «تقتضي مصلحة الشعبين السوري والعراقي، أن نسارع للترحيب والتعامل الإيجابي مع المعارضة التي باتت واقعاً حقيقياً... بصرف النظر عن التحزبات والأيديولوجيات والاصطفافات والكثير من الأخطاء لكل الأطراف... وإذا كانت الحكومة السورية تمثل واقعاً ومساحات، فما تمثله قوى الائتلاف لا يقل عدداً وتمثيلاً، وانفتاحاً للمستقبل، إن لم يكن أكثر. وإن الانقسامات والتباينات داخل المعارضة، لها وليس عليها». واعتبر عبد المهدي أن «الإرهاب والعنف والطائفية وأعمال مدانة لبعض الفصائل، ليست سبباً لإدانة المعارضة بعنوانها. وأن اتهامها بشبهات خارجية خطاب إعلامي يجب أن لا يغلق أعيننا عن القوى الإسلامية والوطنية الكبيرة التي يضمها المشروع. وإن مواقف التأييد للمعارضة من أميركا وأوروبا ودول الخليج ليست دليلاً لعمالة» وأردف «وطنية القوى يقررها تاريخ ومواقف نعرف جيداً مدى أصالتها لدى الفصائل والشخصيات الأساسية للمعارضة. تحالفات من نوع آخر ما كانت الساحة العراقية بعيدة عما يجري على ساحة سورية وأكد سياسي شيعي رفيع أن «بدر والعصائب والكتائب مع حزب الدعوة الإسلامية بجناحيه، المالكي والخزاعي يعملون على تقوية صفوفهم ووضع خطط مشتركة في مواجهة مرحلة ما بعد الأسد» وكشف أن «التحالف الجديد أبعد الصدر والحكيم لعدم انسجامهما مع طروحات هذه القوى».