لم تُعطَ، في الروايات والأفلام، المساحة التي يستحقها الجَدّ العجوز، أسوة بالمساحات الرحبة التي لطالما حظيت بها الجدّة. أعمال كثيرة تحدثت، ولا تزال، عن طعام الجدّة اللذيذ، ومهارتها في الحياكة والخياطة، وبراعتها في رواية الحكايات أمام الموقد. تروي بإفراط، حنانها وحبها وحكمتها... بل و «شدة بأسها» أحياناً على غرار أفلام الكاراتيه. جدّتي لم تكن كالجدّة في الروايات والأفلام. كانت صارمة، كالحماة للصهر، وانسحب دورها هذا على أبنائها وبناتها وأحفادها. لكنها، للإنصاف، كانت مدبّرة من الطراز الأول. علاقتي الحميمة الدافئة كانت بجدّي الذي قام مقام جدّة الحكايات في كل الأمور، ما عدا الأكل. جدّي لم يكن يطهو، لكن جيوبه كانت دائماً مليئة بقطع الحلوى الصغيرة، وخصوصاً ال «سُكّر نبات»: «تجلي الحلق والحنجرة، وتحلّي الصوت والقلب»، كما كا يردّد دائماً فيما يناولنا حبّة السكر الكبيرة. منذ طفولتي، تعلّقت به، بصوته وهو يدللني، بلمسة يده على خدّي. وعندما كبرت قليلاً، صار يحملني على منكبيه ويدور بي في أرجاء المسكن والجوار، لا سيما حين كان يتسوّق الأغراض والحاجيات. وأذكر أن الناس كانوا يرفعون رؤوسهم عالياً جداً لينادوني، ويومئوا لي بحركات لطيفة وظريفة، وأحياناً... بلهاء. بل منهم من كان يقف فوق كرسي ليناولني حبّة فاكهة. كنت أتردد كثيراً في إفلات أُذُن جدّي لألتقط «هدية» البائع، خوفاً من السقوط. هكذا، قضينا مشاويرنا ونزهاتنا: جدي يسير هائماً وأنا «أتهدهد» فوق كتفيه قابضاً على أذنيه الكبيرتين. كبرتُ وصرت أراه من مسافة أبعد. أذهلني علوّه الشاهق، كما أذناه الوارفتان بالطبع، فأصبحتُ أتفهّم جيراننا والصعوبة التي كانوا يكابدونها في محاولاتهم للاقتراب منّي وأنا فوق كتفيه. بعد ظهر كل يوم، كان موعد جدّي مع القيلولة «المقدّسة». وما إن يغمض عينيه حتى أفتقده. وللتعويض عن غيابه الممل، كنت أنتعل حذاءه الطويل كقارب، أضع كفّيّ خلف أذنَيّ وأفرد أصابعي تقليداً لأذنيه، قبل أن أروح وأجيء في الأرجاء، مطلقاً أصواتاً، علّ العجوز يفيق من سباته الموقّت ويخلّصني من مللي. «الجنة» لا تدوم! وها أنا الفيل الشاب، أرى جدّي للمرة الأخيرة، يحيط به رجال الإسعاف لنقله إلى المستشفى. لم يعد جدّي. ولم أبكِ يومذاك، لعادة سخيفة لدينا نحن معشر الفيلة... لكنني ما زلت أحنّ إلى رؤية الدنيا من فوق. * قراءة متخيَّلة في صورة من «أ ف ب»، التقطها ديبتندو دوتا، لحراس غابات في الهند، يعالجون فيلاً بمحمية مهانندا في غابة مدهوبان.