«امرأة تعرف ألف أغنية، خبزها طري، ومربياتها شهية، وفي الأيام الماطرة تعد الكعك المحلى، وشرائح التفاح المطهوة. وفي الصيف تُبقي وروداً في الأصص على البيانو، وروداً ضخمة فوّاحة، وحين تتفتح تسقط بتلاتها، تضعها في مرطبان صيني طويل مع كبش القرنفل، والزعتر وعيدان القرفة. وكانت تنيم بناتها على ملاءات مكوية جيداً تحت طبقات من اللحف. وفي الصباح تمتلئ ستائرها بالضوء على نحو ما تمتلئ الأشعة بالريح». تخوض الكاتبة الأميركية مارلين روبنسون في روايتها « تدبير منزلي» عالماً متشابكاً، يظن القارئ للوهلة الأولى -ربما بسبب العنوان- أنه سيغوص في اجواء النساء. ولكن ثمة ما هو أبعد من تفاصيل عوالم المرأة والمنزل، إلى فكرة الاغتراب النفسي داخل بيت العائلة. إنه الاغتراب الذي يطيح بكل الأشياء جانباً، ويلقي بها إلى النار بهدف الانطلاق نحو عالم الرحيل. التشرد الذي يتناقض مع العنوان لم يكن مفروضاً، بل محض اختيار تقوم به البطلات؛ بطلة تلو أخرى، تختار الفرار من عالم البلدة الضيق؛ بحثاً عن فضاء أرحب بغض النظر عما يمكن أن تواجهه من صعاب. إحدى البطلات تتخلى عن طفلتيها، لأن التوق للرحيل ينتصر في داخلها، بل ويظل مسيطراً على النص ككل حتى في أعمق لحظات الاستقرار. « تدبير منزلي» من ضمن روايات روبنسون التي حازت من خلالها على جائزة همنغواي؛ وفي هذه الرواية نجد الكاتبة تتبع حياة نساء من أجيال مختلفة، يعشن في بلدة « فينغرتون» وهي بلدة متخيلة، لكنها لا تبدو كذلك على الاطلاق، إذ تمنحها الكاتبة، كل ما يمكن أن يجعلها واقعية تماماً، العلاقات الإجتماعية فيها مثل أي بلدة أو قرية، يشارك الجيران في تشكيل حياتهم عبر الثرثرة والنميمة. و «فينغرتون» أيضاً بلدة العواصف والأمطار، حيث الرياح قادرة على قلع أسقف البيوت، والثلج يتمكن من تجميد السكان في منازلهم لأيام طويلة، تقول: «لطالما تفاخرت جدتي أن الطوفان لم يبلغ منزلنا يوماً، ولكن في ذلك الربيع، تدفقت المياه من حواف البيت وغطت أرضيته على ارتفاع أربعة إنشات، مجبرة إيانا على انتعال الجزم عند القيام بالطبخ أو الغسيل». تدور أحداث الرواية على لسان «روث» التي تكشف أنها تربت هي وأختها الصغرى «لوسيل» في رعاية جدتها «سيلفيا فوستر» جراء رحيل والدتها الغامض، ثم بعد موت الجدة تتربى البنتان في كنف قريبتين للعائلة عجوزتين تعانيان من أمراض تقدم السن إلى جانب نمط تفكيرهما التقليدي والجاهل، ثم تؤول رعاية الطفلتين روث ولوسيل إلى خالتهما «سيلفي فيشر» التي هجرت البلدة قبل سنوات وأرسلت العجوزتان إعلاناً نُشر في الجرائد للبحث عنها؛ كي تعود لترعى بنات أختها. ومع عودة سيلفي تبدأ حكاية الرواية الفعلية. الذاكرة والحنين في الجزء الأول من الرواية يتركز السرد على شخصية الجدة، في تتبع تفاصيل حياتها بدقة. وفي الرجوع للحديث عن شخصية الجدة عبر حفيدتها «روث» يلمس القارئ ثلاثة عوامل تقوم عليها الرواية وهي: الذاكرة، الحنين، والحرمان. الجدة في الرواية ترمز إلى الذاكرة، التي تُمثل هنا عنصر الاستقرار والسكينة والدفء، في منزل تحرص أن يكون في أبهى حالاته. لكن منذ السطور الأولى يحضر الحنين كعنصر أساسي، يقوم عليه السرد، لكن هذا الحنين «للأم الغائبة» هو حرمان كبير يفرض حضوره في عالم الطفلتين، وفي عالم الجدة من قبل، وأيضاً في عالم الأم والخالة؛ حرمان يسببه الغياب المتلاحق لأفراد العائلة. فالجدة تفقد زوجها وتعكف على تربية بناتها، ثم بعد أن تكبر البنات -ولأسباب مختلفة- تبدأ كل واحدة منهن بالهروب من البلدة. والدة الطفلتين تفر مع رجلٍ مجهولٍ، وتنجب البنتين «روث ولوسيل» ثم تعيدهما ليتربيا في كنف أمها وتمضي، لتموت في ظروف غامضة. تعيش الجدة الحرمان من بناتها بعد هروبهن، وتعيش الطفلتان الحرمان من حنان الأم، وعاطفة الأب، هما لا تعرفان لم تركتهما أمهما، وبعد موت جدتهما تعانيان من الخوف من بقائهما وحيدتين، حتى ظهور خالتهما سيلفي، التي تعيش حياة مشردة بالانتقال من مكان الى آخر... إن حضور الموت في عالم الطفلتين؛ مع فقدان جدتهما مصدر الأمان بالنسبة لهما يؤدي إلى وجود حالة من القلق تسيطر على مشاعرهما، «روث» منطوية قليلاً، لكن «لوسيل» جريئة وطموح وتحس أن حياتهما غير طبيعية، وأن خالتهما «سيلفي» موضع سخرية من الجارات بسبب إهمالها في التدبير المنزلي، وفي اللياقات العامة، وفي الاعتناء بمظهرها، ومظهر الطفلتين. تحضر سيلفي كشخصية غامضة في البدء، يبدو أنها اضطرت الى العودة رغماً عنها، من دون أن تملك اختيار، فقد آل مصير رعاية الطفلتين إليها، وينبغي أن تؤدي المهمة. تبذل قصارى جهدها لكنها غير بارعة في القيام بالأمور الحياتية، بل إنها تنام قرب محطة القطار بثياب رثة أشبه بمتشردة، تجمع الصحف القديمة أو تُجري أحاديث مع غرباء عنها ومشتبه بأمرهم، وهذا ما يسبب غضب «لوسيل» التي لا تحرص على اخفاء غضبها، بل تنفجر في وجه خالتها لتنقل ما يتداوله أهل البلدة في السر عنها. تنتقد «لوسيل» خالتها التي تنام بملابسها، أو منتعلة حذاءها، وتنسى نفسها في نزهات طويلة عند البحيرة ... وكان لتكرار مثل هذه السلوكيات أن دفع «بلوسيل» إلى الانتقال للسكن عند احدى عائلات البلدة، لأن أعيان «فينغرتون» اتفقوا على عدم قدرة «سيلفي» القيام برعاية الطفلتين، حينها تبزغ رغبة الرحيل من جديد عند «سيلفي» فما كان منها إلا أن أخذت معها الطفلة «روث» ومضيتا معاً في فرار جديد، بعد أن أشعلتا النيران في منزل العائلة، كي يظن سكان البلدة أنهما قضيتا حرقاً لسبب ما، فلا يبحث عنهما أحد. لكن التشرد في الرواية يحمل وعياً بأهميته التي توازي الحرية، حيث المضي الى المجهول يُماثل القدرة على التمرد من دون كلام أو مواجهات مع المجتمع، بل عبر الفعل المباشر الذي بدا أكثر تحرراً وتأثيراً من أي قول. يمكن القول عن أسلوب مارلين روبنسون بأنه يتميز بالسلاسة والبساطة في الوصف، واللغة، هذا ما يتضح أيضاً في روايتيها «البيت» و «جلعاد» التي نقلها إلى العربية سامر أبو هواش، حيث يمكن ملاحظة قدرة المترجم على اختيار المفردات المنسجمة مع روح النص الأصلي.