اعتدت أن أودع أولادي ملوحاً لهم وهم ينطلقون مع السائق بصحبة والدتهم في صباح كل يوم، حين ينطلقون إلى المدرسة ومن ثم عمل زوجتي، كنت أشعر بالرضا يكبر داخل نفسي عن استقرار أوضاعنا المالية بعد سنواتٍ من ضيق اليد، وتزداد قناعتي يوماً بعد يوم بأنني رجل وُفق لتأدية واجبه وأمانته نحو أبنائه وأسرته، في مناسبات عدة كنت أشعر بأن زوجتي تتدلل عليَّ حين تطلب مني أن أُوصلها بنفسي هي والأولاد إلى مدارسهم وعملها، إذ كانت تعمل ممرضة، لأنه عليّ، بحسب تعبيرها هي والأولاد، يفتقدونني، في كل مرة كنت أعتذر لها بلطف، وأبرر لها بأنني أخشى التأخير عن عملي، خصوصاً بعد أن أصبحت رئيس قسم ويتحتم عليّ أن أوجد في المكتب قبل الموظفين، كانت تبتسم، وفي مرات عدة كنت أرى مسحة حزن في عينيها لا تخفيها ابتسامتها، ولكن لا أجد لها مبرراً داخل نفسي كرجل أمام توفر جميع متطلبات الحياة التي تتمناها أية زوجة، أخذت على عاتقها مسؤولية توصيل الأولاد إلى المدارس، ثم تنطلق إلى عملها متأخرة دقائق. في أحد الأيام عادت حزينة وملامح الإحباط كانت تبدو على مُحياها، إذ لم تُشمل في ترقية السنة الحالية، على رغم تفانيها في العمل، وجلست تحكي لي همومها في العمل، وكيف أحرجها رئيسها بسبب التأخير، فسألتني قبل أن تنهض لتدريس الأولاد، هل توصلنا في طريقك غداً، فرددت عليها سريعاً «إن شاء الله»، كانت تلك الكلمة كفيلة لتبديد الاستياء الذي كان يعتلي وجهها منذ عودتها، فاستغربت كيف أن فكرة التوصيل كان لها مفعول السحر لإدخال الرضا لنفسها، في صباح اليوم التالي غادرت إلى مكتبي مُسرعاً كالعادة، ولم أتذكر وعدي لها إلا بعد فوات الأوان! في نهاية ذلك اليوم ألقيت بجسدي المتعب على الأريكة وتمددتُ قليلاً، اعتادت زوجتي أن تُحضر أبنائي من المدرسة وقت استراحة الغداء، وتتركهم تحت رعاية والدتها مع خادمتهم، وفي نهاية دوامها الذي ينتهي في حدود الرابعة والنصف بعد العصر تقلهم معها إلى البيت، فانتهزت فرصة خلو المنزل، وبدأت في تحضير التقرير الشهري الذي اعتدت تسليمه إلى رئيسي، نظرت إلى ساعتي فوجدت مازال هناك وقت إلى موعد العشاء فانهمكت في عملي، ولم أتوقف إلا بعد أن شعرت بجوعٍ شديد يتسلل إلى معدتي، نظرت إلى الساعة التي كانت تشير إلى التاسعة مساءً، أحسست بأن هناك شيئاً ما عطلها، كنت مطمئناً بأن الأولاد بخير، فاتصلت بجوال زوجتي الذي كان مُغلقاً، فجلست انتظر وعاودت الاتصال بها بعد دقائق، ولكن غلبني النعاس، ولم استيقظ إلا على صوت المنبه. نهضت سريعاً وانطلقت إلى عملي بشكل سريع إلا أن القلق بدأ يتملكني، اتصلت على زوجتي مرة ثانية، ولكن ما زال الهاتف مُغلقاً، لا أدري كيف دخلت فكرة أنها قد تكون تقضي مناوبة لتغطية مكان زميلة في رأسي، ولكن عادةً تتصل بي، كان الوقت ضيقاً وعليّ اللحاق باجتماع مدير الإدارة، قطع أفكاري صوت رنين الهاتف الذي ما إن وضعته على إذني، حتى تجمدت مكاني وخرجت مسرعاً! وقفت خلف الزجاج انظر إلى زوجتي وهي في غرفة العناية المركزة بعد أن تعرضت لحادثة مرورية كادت تُودي بحياتها، تحفظت الشرطة على السائق الذي أقسم بأن «المدام» كانت تطلب منه أن يسرع لأنها تأخرت على الموعد الذي اعتادت فيه أن تقل أبناءها من بيت أهلها، ما اضطره للرضوخ لرغبتها، فلم يسعفه الوقت لتجاوز الإضاءة الصفراء وقطع الإشارة، جلست أبحث عن ملامح وجه زوجتي الجميل الذي كان مُغطى بالأربطة، إذ تعرضت إلى نزيف في الرأس، وكسر في اليد اليمني، مع شرخ في عظام الحوض بسبب صدمة السيارة من الجهة اليمنى التي كانت تجلس فيها، فتذكرت طلبها الذي تجاهلته فاعتراني غضب شديد وتأنيب للضمير، جعل الدموع تنساب من عيني من دون أن أشعر! كانت تقوم بمسؤوليات البيت بأكملها، كل شيء له وقت ولا أدري كيف تستطيع التوفيق بين كل تلك الأمور، عملها، بيتها، أبنائها، الطبخ، التدريس، كل شيء حتى واجباتي لا تنساها، وحين تتعب لا تتوقف بل تستمر في العطاء، أما أنا فنسيتُ تماماً بأنها هي أيضاً لها حق أن ترتاح، كم كنت أنانياً لا أفكر سوى في نفسي وراحتي، ولم أفكر يوماً أن أخفف عنها شيئاً من الحمل الذي ألقيته على عاتقها! ربتَ الطبيب على كتفي فالتفت أبحث في عينيه عن بريق أمل يقول لي إنها ستكون بخير، ولكنه اكتفى بكلمة واحدة أمامنا 24 ساعة ويتحدد مصيرها، ادع لها بالنجاة! كم من المواقف التي عززت من اعتقاد أنك وفرّت لأسرتك جميع متطلبات الحياة، وكم من المرات التي تعود فيها إلى البيت أنت وزوجتك وتجدها بعد لحظات واقفة تحضر الطعام، وتدرس لأبنائك، وأنت تجلس مسترخياً بعد عمل نهار كامل، كم من المرات أتى أحد أبنائك يحمل مسألة يصعب حلها ثم تصرفه «اذهب إلى أمك تشرح لك»، وكم من الأيام التي تقضيها وأنت تأخذ وقت أسرتك وتنفقه تارة على عملك، وتارة على أصدقائك ومشاهدة مباريات وجلسات استراحة وطلعات بر في الشتاء، و«كشتات» بحر في الصيف! من دون أن تشعر بالتقصير لأنك تبرر لنفسك دائماً أن السائق موجود، ولا يحتاجون لشيء! الأب والزوج تشكيلة معنوية عاطفية، لا يمكن للسائق أن يعوض عن غيابه، والاستمرار في تهميش نفسه، بالابتعاد والتملص من المسؤوليات وتجاهل المشاركة، والتركيز على نفسه بأنانية، لن يجعل منه سوى رجل خفي آخر، يعيش بين أسرته ولكن لا يرونه! * كاتبة سعودية. [email protected] twitter | @halaAlQahtani