يتمّ انسحاب القوات الأميركية من العراق، الذي يستكمل نهاية العام الحالي، في مرحلة حساسة من تاريخ العراق الجديد، حيث يسود الأوساط العراقية قلق علي مستقبل العملية السياسية، نظراً إلى الفراغ الذي يتركه انسحاب هذه القوات، ومن الذي سيملأ هذا الفراغ، الأتراك أم الإيرانيون أم الحكومة العراقية بأجهزتها الحديثة التكوين بعد انهيار الأجهزة الحكومية للنظام السابق؟ وقد سألني شاب خلال زيارتي الأخيرة بغداد أين تعيش؟ قلت في إيران، فأجاب، آه من الإيرانيين! لم أفاجأ بجوابه، لأني أسمع الكثير من هذه الآهات، يطلقها البعض متعمداً وقاصداً وهادفاً لأنه يملك موقفاً مسبقاً من إيران، في حين يطلقها البعض الآخر متعاطفاً مع البعض الأول، في الوقت الذي يري فيها البعض الثالث مصادرة للقرار العراقي المستقل، ولا نبخس البعض الرابع الذي يري في الإيرانيين داعماً ومناصراً. ماذا تريد إيران من العراق؟ وماذا يريد العراقيون من إيران؟ أسئلة في غاية الشفافية والوضوح، تدور في أذهاننا جميعاً وليست بعيدةً من واقعنا السياسي المُعاش، لكن المشكلة في أننا كمثقفين ونخب سياسية وأكاديمية لم نناقش هذه الأسئلة في أجواء هادئة للخروج بتصور مستقبلي للعلاقة مع إيران يحقق المصلحة للشعب العراقي ولمستقبل العملية السياسية في العراق. ولن نختلف كثيراً إذا قلت إن إيران كانت تراقب الأوضاع السياسية في العراق بدقة منذ أن انتصرت الثورة الإسلامية عام 1979، وقد أجبرتها ظروف الحرب العراقية - الإيرانية على أن تكون من أكثر الدول خبرة في تفاصيل المشهد العراقي وعلي المستويات كافة، ساعدتها في ذلك العلاقات التاريخية التي تربط الشعبين العراقي والإيراني، وظروف الجوار، وانعكاسات التجاذبات السياسية طوال القرن الماضي، ما أعطاها قدرة علي تفسير الأحداث والتطورات، والتعامل معها في شكل يقترب من الواقع، الأمر الذي أوجد عند المسؤولين الإيرانيين خبرة متراكمة في التعاطي مع الشأن العراقي وفقاً لمصالح الأمن القومي الإيراني. وأمام هذه الحقيقة، هل الخبرة الإيرانية المتراكمة، والمصلحة الإيرانية، هي نقمة علي الخيار الديموقراطي العراقي؟ أم نعمة تصب في مصلحة العراق ومستقبله؟ وهل الخيار الإيراني يتقاطع مع الخيار العراقي، أم ينسجم معه، سواء في الأطر العامة، أو في بعض تفاصيله؟ أسئلة تحرج البعض، ويرى فيها البعض الآخر واجباً وطنياً يجب التركيز عليه، لأن الأخطار التي تسببها إيران للعراق - وفق اعتقاد هذا البعض - لا يمكن حصرها ولربما تفوق تلك الأخطار التي يسببها أو سببها الاحتلال الأميركي للعراق. سأناقش الموضوع بشيء من الواقعية، بعيداً من كل أشكال المواقف السياسية المتأثرة بالطائفية تارة، والحزبية تارة أخري، والقومية علي وجه الإجمال، وسأركز في هذا البحث علي الجانب السياسي، مع التذكير بالرصيد الديني والعقائدي والثقافي والاجتماعي والسياسي للشعبين العراقي والإيراني منذ العصر العباسي مروراً بالتلاقح الفكري والثقافي لمدرستي النجف وسامراء مع مدرسة قم وخراسان خلال القرن الأخير. ومما لا شك فيه أن التنكر لهذه الحقائق عند دراسة العلاقات الثنائية للبلدين، سيفضي إلي إرباك في توخي النتائج المنطقية والواقعية، والتي تؤدي إلي سلسة من التجاذبات والأزمات والحروب التي لا تقف عند حد مثلما فعل صدام حسين. هناك ثوابت عدة في السياسة الخارجية الإيرانية وعلي أساس هذه الثوابت تستند علاقاتها مع هذه الدولة أو تلك، ومن أهم هذه الثوابت الوجود الأجنبي في المنطقة، إضافة إلي المبادئ التي نادي بها مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني، في دعم حركات الشعوب، والوقوف بوجه القوي المهيمنة علي مستقبل الشعوب الإسلامية، ودعم تطلعات هذه الشعوب في الحرية والديموقراطية والتنمية، لبناء الوطن الإسلامي الكبير الذي يستطيع خدمة حركة المجتمع نحو التمسك بالعلم والمعرفة. ومن الطبيعي جداً أن ترسم أي دولة خريطة الأمن القومي لبلدها، توضح فيها حدود هذا الأمن ومصالحها، إضافة إلي أعدائها وأصدقائها وآلية التعاطي مع هذا أو ذاك من أجل تحقيق أهداف أمنها القومي. وإذا كان ذالك صحيحاً، فإن الصحيح أيضاً، أن يبادر العراق إلي وضع أطر أمنه القومي من أجل التعاطي بمنهجية مع مصالح الدول الأخري، خصوصاً أن العراق علي لائحة الدول الصديقة المصنفة إيرانياً. وإذا كان هناك من يعتقد بوجود تمدد إيراني في العراق أو في المنطقة، علي حساب مصالح شعوب هذه المنطقة، فإن ذلك ليس من سلبيات المصالح الإيرانية، وإنما هو من تداعيات انهزام النظام الرسمي العربي الذي كان يترنّح منذ احتلال النظام العراقي السابق دولةَ الكويت، وسقط بسقوط النظام العراقي حيث كان العراق يمتلك تعريفاً خاصاً في النظام الرسمي العربي. نستطيع أن ندرس ونبحث منظومة الأمن القومي الإيراني، شأنه شأن المنظومات كافة الأمنية للدول المجاورة للعراق والدول الأجنبية الأخري، لكن ليس من حقنا، ولا نستطيع أن نملي علي الدول الأخري تفاصيل أمنها القومي، فكل الدول المجاورة للعراق تمتلك منظومة أمنية، تتعاطي من خلالها مع العراق، وبطبيعة الحال فإن العراق يُعرف في هذه المنظومات وفق طبيعة نظرة كل دولة للعراق الجديد. وفي ما يخص إيران، فإنها تعاملت مع العراق الجديد، علي أنه بلد صديق، يمتلك حضارة عريقة، ويحتاج إلي المزيد من الدعم والمساندة، لكن ليس علي أساس تعريف النظام الرسمي العربي السابق الذي أعطي له مهمة الدفاع عن «البوابة الشرقية»، والتي خسر فيها العراق خيراته ومستقبله وخيرة شبابه، والذي أدي إلي ما نحن عليه الآن. لقد وقفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلي جانب العراق الجديد منذ الساعة الأولي لسقوط النظام السابق، واعترفت بإرادة الشعب العراقي في كتابة الدستور، ووقفت معه في كل المراحل والتفاصيل الديموقراطية التي أدت إلي انتخاب حكومة وطنية منبثقة من برلمان وطني منتخب من قبل الشعب في شكل مباشر، ودعمت هذه الحكومة، في الوقت الذي أعلنت وقوفها مع خيار الشعب العراقي من دون النظر إلي من سيكون علي رأس هذه الحكومة، قالت ذلك إلي كل الفرقاء العراقيين الذين التقت بهم في بغداد، أو الذين شدوا الرحال إليها في طهران. ويُخطئ من يظن أن إيران تتعامل طائفياً أو قومياً مع المشهد السياسي العراقي، لأن هذين العاملين لا يدخلان في منظومة الأمن القومي الإيراني، فإيران تعاطت - علي سبيل المثال لا الحصر - مع حزب الله اللبناني الشيعي، في الوقت الذي تعاملت مع حركة حماس السنّية، كما أنها من حلفاء التيار الوطني الحر اللبناني المسيحي، ولها علاقات متميزة مع الحركات الكردية العراقية، ولن أكشف سراً إذا قلت إن ايران تمتلك علاقات مع معظم التيارات السياسية العربية القومية والدينية، بناءً علي منظومتها الأمنية القومية الآنفة الذكر، التي تستبعد الحالة الطائفية والقومية. وضعت القيادة الإيرانية إمكاناتها كافة أمام الساسة العراقيين الذين سمعوا ذلك خلال لقاءاتهم الخاصة والعامة، إلا أن المهمة الأصعب تقع علي عاتق هؤلاء السياسيين في آلية الاستفادة من هذه الإمكانات، فالبعض اكتفي بمطالب شخصية، والآخر طالب بمنجزات جزئية، فيما اعتقد البعض الآخر أن طهران يمكن أن تخدمه في الصعاب. إن المنظومة الأمنية الوطنية العراقية، تستطيع أن ترسم معالم العلاقات المشتركة ليس مع إيران فحسب، وإنما مع كل دول الجوار، فضلاً عن الدول الأجنبية. لا أريد أن أرمي الكرة في الملعب العراقي وأزكّي الدول الأخري، لكني أريد تأكيد ضرورة أن يأخذ العراق بعامل المبادرة ليرسم علاقاته مع الدول الأخري بناء علي المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، خصوصاً مع الدول الصديقة ومنها إيران. فوضوح الرؤية العراقية حول جميع القضايا والملفات الساخنة الداخلية والخارجية تخدم مستقبل التعاون العراقي الإقليمي، كما أن شرح هذه الرؤية لدول الجوار والأسرة الدولية تؤثر إلي حد كبير في تعزيز أواصر العلاقة والتعاون مع المحيط الإقليمي والدولي.