بين الثالث من شباط (فبراير)، والثالث والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، عاش اليمن أطول محاولة لإنجاز حل، من دون التفاوض بين طرفي المعادلة السياسية، السلطة والمعارضة، حيث فشلت السلطة، في «فض» الثورة بالقوة، كما فشلت الثورة في «هد» النظام. وعبر توقيعهما على المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، فتح الباب على مصراعيه لاختبار مشترك للسلطة والمعارضة، لإعادة تحديد ملامح التجربة السياسية لدولة الجمهورية اليمنية التي سبق وشهدت اتفاقاً مماثلاً في محاولة لتجنب الحرب بين الشمال والجنوب، عبر اتفاق عمان الذي رعاه الملك الأردني الحسين بن طلال في 21 شباط 1994، قبل أن يفشل الاتفاق وتشتعل الحرب، التي انتهت لمصلحة فرقاء الصراع اليوم. نصف نصر... نصف هزيمة المبادرة، ضمنت نصف نصر مقابل نصف هزيمة، لكل من الطرفين، فالرئيس علي عبدالله صالح الذي وقّع على مبادرة تلزمه بتسليم سلطته الرئاسية التي كانت تنتهي ولايته فيها في أيلول (سبتمبر) المقبل، وإيقاف محاولات حزبه تعديل الدستور للسماح له بالترشح لفترة رئاسية جديدة، بقي رئيساً لحزب الحكم «المؤتمر الشعبي العام»، الذي أسسه هو في 1982، كتحالف لسلطة دولة الشمال التي كانت تحرم الحزبية، ويملك اليوم أكثر من نصف البرلمان وإليه تنتمي قيادات المحافظات ال21 المنتخبة عبر المجالس المحلية، ونصف الحكومة وفقاً للاتفاق، وإليه ينتمي الرئيس التوافقي عبد ربه منصور هادي، الذي يشغل حالياً منصب نائب الرئيس صالح من جهة، والأمين العام للمؤتمر من جهة ثانية. وتمنع المبادرة المعارضة التقدم بمرشح منافس لهادي في الانتخابات المزمع إجراؤها في شباط المقبل. والمعارضة، التي فشلت في إسقاط نظام صالح، واضطرت للدخول معه في توقيع شراكة، عادت للشراكة بشرعية تمثيل أقوى من تلك التي يستمد منها الرئيس صالح شراكته، ففيما هي تمثل ملايين خرجوا إلى الشوارع رافعين شعار إسقاط النظام، فإن شرعية صالح لا تتعدى الاتفاق الموقع عليه، وصمود المؤسسة الرسمية، عسكرية ومدنية في غالبية المحافظات وبخاصة في العاصمة صنعاء التي شهدت حروب شوارع في محيط ساحة الاعتصامات. وإذا كان التوقيع، مثّل اعترافاً متبادلاً من طرفي الأزمة اليمنية، بالآخر، فإن كل طرف لم يتوانَ عن إعلان شكه من «جدية» الطرف الآخر في التعاطي الإيجابي مع المبادرة كواجبات كما هي كحقوق، وحتى الآن فإن الأداء على الأرض لم يختلف كثيراً باستثناء ما يتعلق بالمفاوضات من أجل تشكيل الحكومة. فلا تزال المواجهات العسكرية في محيط العاصمة صنعاء وتعز بين مسلحي الثورة وبين الجيش، وتنتشر المتاريس من الطرفين في الشوارع التي كانت نقاط تماس، وكل يوم يعلن الأطراف خروقات من قبل الطرف الآخر. الأطراف الحزبية تركز على أهمية تشكيل الحكومة، وينشغل الجيش المؤيد للثورة، وغالبية قياداته من المتقاعدين، إلى جانب مسلحي القبائل في طلب إعادة هيكلة الجيش، في مسعى لاستباق خلو الساحات للحصول على دعمها في التفاوض على إعادة توزيع القوة داخل الجيش والأمن، وهي القوة الأهم التي حمت نظام صالح من الانهيار. ويبقى شعار الساحات الأكثر حضوراً هو محاكمة الرئيس صالح وقيادة جيشه وأمنه، وأعلن المبعوث الأممي الذي قاد مفاوضات إنجاز الآلية التنفيذية التي كان اشترطها صالح، للتوقيع على المبادرة، أن المبادرة والآلية لم تتحدثا عن «عزل» من بقي من عائلة الرئيس في المؤسسة العسكرية والأمنية، وهو ما أعلن عنه سفير الاتحاد الأوربي. كما طالب مجلس الأمن الدولي أطراف الأزمة بتجنب التحريض ضد التسوية السياسية. وحتى الآن، لم يتحدث الرئيس علي عبدالله صالح وحلفاؤه عن مطالب قد تثير الخلاف، كإخلاء المسلحين القبليين الموالين للثورة من المدن، خصوصاً أتباع أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، كما أعلن صالح «العفو» عن غير مرتبكي محاولة اغتياله، في محاولة لتطمين أطراف القتال في صنعاء والحصبة وصوفان وأرحب ونهم من جهة، ولحماية أنصاره الذين تتهمهم المعارضة بارتكاب عمليات قتل بحماية المؤسسة الأمنية. ويتبادل أطراف الثورة، الاتهامات بالعمل لمصلحة علي صالح أو بالتحالف معه ضد «الثورة»، وبخاصة الحوثيين والإصلاحيين، الذين اشتبكوا في معارك وصل بعضها لاستخدام السلاح، وفيما يتهم الحراك الجنوبي «الشماليين» بالتحالف ضد القضية الجنوبية، سواء كانوا مع الثورة أو مع السلطة، يتهم بعض رموز الحزب الاشتراكي الذي كان يحكم الجنوب، والتجمع اليمني للإصلاح، المؤتمر الشعبي العام بدعم الحراك الذي يسعى إلى الاستقلال، مقابل أصحاب شعار الفيديرالية الذي يدعمه اللقاء المشترك عبر عدد من رموزه. ويبدو أن قضية الوحدة اليمنية، ستكون واحدة من أهم أدوات الصراع بين طرفي الاتفاق، حيث سيدعم الطرف المتضرر توجهات الجنوبيين الاستقلالية، في محاولة لإرباك سيطرة خصمه. الاقتصاد... الملف الأهم والأضعف حدة الاختلاف بين الشريكين، تهدد بإبقاء الملف الأهم، الذي يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية والإدارية وقضايا التنمية المختلفة، في آخر الأولويات، بانتظار تسوية مطمئنة لطرفي الأزمة، بصرف النظر عن جذور الأزمة نفسها التي عمقت أضرار اليمن الشعبية خلال عشرة أشهر من تصاعد الصراع المتعدد الأقطاب والأهداف، وهو ما يهدد ببقاء الديموقراطية اليمنية، عدوّاً للتحول الاقتصادي، حيث ستبقى مجرد إنجاز معنوي سياسي، فحتى الآن وبعد عقدين من الزمن، من تاريخ تحول اليمن نحو الديموقراطية، لا تزال كل المعارك العلنية مرتبطة بالخطاب والقضايا السياسية. فيما المعاناة الأكثر تأثيراً في حياة ملايين السكان تتعلق بالتحولات الاقتصادية والإدارية. كان الإخفاق الأكثر تأثيراً في خطاب الثورة اليمنية، هو تبنيها لتفسير «اللقاء المشترك»، للمشكلة والحل في اليمن، خلافاً لأطراف المجتمع الدولي وحتى الإقليمي، الذين كونوا العام الماضي «مجموعة أصدقاء اليمن»، في سياق المفاوضات الطويلة بينهم كمانحين، وبين الحكومة اليمنية، لإدارة «التمويل» الدولي والخليجي لمشروع الإصلاحات الاقتصادية والإدارية لليمن. يرى المجتمع الدولي، أن المشكلة في اليمن هي «اقتصادية إدارية»، فيما تمسك اللقاء المشترك في مسيرته الطويلة من الخلافات مع المؤتمر الشعبي العام، بأن المشكلة «هي سياسية، والحل سياسي». وحتى تفجر «الثورة»، كان المجتمع الدولي يتجاهل مؤشرات الصراع السياسي بين الرئيس علي عبدالله صالح والمعارضة، وحاول مساندة محاولات الأخير التركيز على الإصلاحات الاقتصادية، ولكن حكومة صالح لم تحقق أي نجاح في «تلبية شروط المانحين» للحصول على أعلى سقف من المعونات حصلت عليه اليمن، وصلت إلى ستة مليارات دولار في مؤتمر لندن الذي حاول فيه المجتمع الدولي دعم العهد الجديد للرئيس صالح بعد فوزه في أول انتخابات رئاسية تنافسية في 2006. ومع تفجر الثورة، وقفت الرؤية الدولية، مع رحيل الرئيس علي عبدالله صالح، من جهة، ولكن ضد إسقاط النظام من جهة ثانية، في محاولة لتوظيف الثورة في سبيل دعم أولوية القضية الاقتصادية، غير أن سقوط خيار حكومة التكنوقراط الذي كان طرحه القطاع الخاص عبر مبادرته في الأيام الأولى للثورة، وحالة انعدام الثقة بين الطرفين السياسيين الموقعين على المبادرة الخليجية لا يبشران بمنح الملف الاقتصادي ما يستحقه من الاهتمام. العودة للبحث عن الاستقرار بعد عشرة شهور من «ثورة» تبنت شعارات سياسية عريضة وكثير منها عبارة عن محاكاة للصراعات في البلدان الأخرى، الهم الأول لليمنيين، الحصول على حد أدنى من الاستقرار الذي كان سائداً قبل الثورة، وفيما ساهم بقاء الحوثيين خارج التسوية السياسية، في دعم مخاوفهم من إقصائهم عبر شركاء الحرب ضدهم والذين توزعوا على الثورة والسلطة، فإن التأييد المحلي والدولي لحق الثورة السلمية في إسقاط النظام، ساهم في تعزيز نضال الجنوبيين من أجل نيل الاستقلال، واستعادة الدولة الجنوبية. وساهمت شعارات الثورة ضد «النظام العائلي»، بهز الشرعية المعنوية التي توافرت لعهد الرئيس علي عبدالله صالح، ولم تعرفه اليمن من قبل. وإذا كان صمود دولة الرئيس علي عبدالله صالح، من جهة، وإيقاف المعارضة شعارات «الزحف والاقتحام» التي رفعتها بعض مكونات الثورة، قد ساهم في العودة لحل الشراكة، فإن هشاشة بنية «الاتفاق»، وعدم وجود قوة ميدانية «منحازة للتسوية» في شكل قطعي، ضد تطرف وتحريض وأخطاء السلطة أو الثورة، تبقيان الشراكة أحد مهددات الاستقرار. ونجاح علي عبدالله صالح في «الصمود» لا يعني أنه قادر على استعادة الاستقرار العام الذي توافر لعهده خلال سنواته الأخيرة، بخاصة أن المطلوب منه هو فقط تهيئة الملعب لخلفه عبد ربه منصور هادي، خلال ثلاثة أشهر، كما يتعرض لضغوط تتعلق بمناصب مقربيه الموالين له في المناصب العسكرية، مقابل أقاربه الموالين للثورة. وتضرب اليمنَ تجاذباتٌ أوسع من صراع الثورة والسلطة، من أقصى الشمال في صراعات الحوثيين والسلفيين، والذي يهدد تصاعدها بإعادة إنتاج صراع يمني - يمني على أساس مذهبي، إلى أقصى الجنوب، التي يهدد استمرار تجاهل الشماليين مطالبَ الاستقلاليين من الجنوبيين باقتتال على أسس جغرافية، كما تعاني تعز في وسط اليمن من اقتتال أهلي بين جماعات غير مسماة بتسميات محددة، حتى وإن تعامل معها الإعلام عبر لافتات صراع الثورة والسلطة قبل التوقيع على المبادرة، غير أن الاقتتال لا يعلم منه سوى إطلاق الرصاص على مدار الساعة، من مجاميع مجهولة. وستثير إعادة السلاح الرسمي إلى ثكناته، وإخراج المسلحين من المدن، وإزالة الحواجز التي أقامها فرقاء الصراع المسلح حول منازلهم ومقار مؤسساتهم تحديات عاصفة لحكومة الوفاق الوطني، التي ستمثل طيفاً سياسياً لم يكن يوحده سوى شعار إسقاط الرئيس.