قضت طبيعة الحالة الفلسطينية أن تتفاعل الأحداث السياسية فيها بسرعة فائقة، مشكلة حالة نادرة في عالم اليوم، وفوارق سياسية مختلفة عن تجارب كثيرة حولها، إلا أنها في السياق العام لا تخرج عن السنن الكونية، والجدلية التاريخية، التي قضت بزوال الطارئ الدخيل، وبقاء الأصيل المتجذر، القوي بعلمه وإرادته، وإيمانه بحقه. من غرائب السياسة الفلسطينية وعيوبها - مع أن هناك من لا يعترف بوجود العيب في السياسة أصلاً ولا في غيرها- هو الخروج عن منطق الأشياء والمنهجية العلمية في تفسير الأحداث وتحليلها، من قبل بعض المحسوبين على قوى سياسية معينة. من حق أي فرد، أو أي فصيل فلسطيني أن يناظر ويحاجج، ويدعم أفكاره بالأدلة والشواهد، ولكن أن يصل به الأمر إلى لي عنق الحقيقة، وتحريف الكلام، والاستخفاف بعقول الناس، فهذا أمر غير مقبول إطلاقاً، وغير لائق. «عيوب» السياسة الفلسطينية متنوعة ومعقدة، والهدف من طرحها ليس نشر الغسيل بل محاولة متواضعة لتسليط الضوء عليها، علّ وعسى تخف حدتها وتأثيرها السلبي في مجريات الأحداث. نجد مثلا قوى سياسة فلسطينية يلفها التعصب والانغلاق، ولا تعمل إلا بنظرية الكهف، فأفرادها منغلقون على أنفسهم، ولا يعرفون الحلول الوسط ويتصورون – أو يصورون لأنفسهم- أنهم على الحق المطلق، وغيرهم باطل مطلق، فليس لديهم إلا أبيض أو أسود، ويتناسون وجود ألوان كثيرة بين اللونين. في الحالة الفلسطينية، كثيراً ما يتم قلب الحقائق وتطويعها، خصوصاً إذا خالفت مصالح أو توجهات قوة معينة. التبعية، والتواطؤ، وقصر النظر وغيرها تهم جاهزة وسريعة من دون تبصر بالعواقب، عدا عن تصيّد الأخطاء والهفوات، والتركيز على السلبيات والعثرات، وترك الايجابيات والانجازات. المتتبع للثورات العربية، يرى أن بعض القوى الفلسطينية باركها في بدايتها، ثم انقلب وأخذ يتهمها بالرجعية، والتبعية لأميركا، فكيف يستقيم هذا؟ حتى أن بعض كتّابها ذهب بعيداً باتهامها بالعمالة، وهؤلاء أيضاً من يثيرهم أي لقاء قريب للمصالحة، ومن ثم يأخذون بالحديث عن «المحاصصة». ترى كاتباً أو قيادياً من فصيل معيّن، يكتب أو يحلل أو يصرح حول قضية معينة ترتبط بفصيل آخر، فيتلاعب بالألفاظ والعبارات، مستخفاُ ومستهتراً بالقارئ أو السامع، ويصل به الحد إلى قلب الحقائق، وكأن القارئ من «كوكب آخر» ولا ينعم بنعمة العقل والتمييز، والقدرة على فهم الأمور. كل من يقوم بخطوات مدروسة علمياً، ضمن خطط وبرامج محددة ، وأهداف قادرة على التحقيق، وواقعية، ينجح ويصل، وان طال الزمن، وبالتالي لا يهمه ولا يلتفت الى نقيق الضفادع من حوله مهما بلغ ضجيجها. الضعيف المتباكي- في عالم اليوم لا يحترمه أحد - لا يقدر على تحقيق أهدافه، ومن الطبيعي أن يبحث عن مصادر القوة حتى ينجح في تحقيقها. في الحالة الفلسطينية من الجنون وغير المعقول بقاء حالة الانقسام وعدم المصالحة الحقيقية، كون الفرقة والاختلاف وعدم الالتقاء على برنامج وطني موحد تزيد حال الضعف والهوان، وتثير شهية نتانياهو لالتهام المزيد. في المنطقة حالتان متناقضتان: حال دولة الاحتلال التي تتفق وتلتقي ضمن خطوط عريضة لمصلحتها، رغم تنوع واختلال القوى السياسية فيها، والحال الفلسطينية التي لم تتفق القوى السياسية فيها حتى الآن، على برنامج موحد وخطوط عريضة وعامة للنضال نحو الدولة الفلسطينية، وهو ما يؤرق ويوجع قلب كل حر وشريف. أحياناً قد يختلف المرء مع نفسه حول كيفية اتخاذ قرار صائب في قضية معينة تخصه، ويبحث عن بدائل وحلول أخرى وأقوى لأي مشكلة تواجهه، فكيف بنا بمشكلة احتلال ينهش صباح مساء الأرض والإنسان الفلسطيني ويستهدف الجميع. لا بديل عن الوحدة سريعاً، والعمل المشترك البناء، وتعزيز قيم التعاون، ضمن برنامج وطني يجمع الجميع ويقود الى كنس الاحتلال، ليسجل التاريخ بعدها صفحة مشرقة بعد طول غياب.