تطرق مجموعة من الشبان باب مقر فرع اتحاد الأدباء والكتاب في عدن ثم تشرع في حمل الكراسي على متن سيارة شحن. فمنذ شهور وأعضاء في «حركة شباب عدن» يأتون إلى هنا لاستعارة الكراسي لاستخدامها في ندوات تقام في الأحياء السكنية للتوعية بأهمية توحيد الصف الجنوبي. وانطلاقاً من ماضٍ صاخب بشعار «يا عمال العالم اتحدوا» إلى حاضر دافق بصرخة «يا أبناء الجنوب اتحدوا» ومن «في كل العالم عندي حبيبة هي الشبيبة» و «يمن ديموقراطي موحد نفديه بالدم والأرواح» وهي شعارات ظلت الشبيبة الجنوبية تهتف بها حتى قيام الوحدة، إلى تصاعد الحديث عن هوية جنوبية خالصة، ترتسم اهتمامات الأجيال الجديدة في جنوب اليمن. وهي اهتمامات زلقة تتحرك وترتد بمختلف الاتجاهات ما يعيق أحياناً وضع المواقف والمطالب في سياق متسق. آخر تلك التجليات توزع الشباب الجنوبي الذي يشكل القاعدة العريضة للحراك الجنوبي ومدماك حضوره في الشارع، بين تياري الفيديرالية وفك الارتباط أو ما بات يعرف بجماعتي القاهرة وبروكسيل نسبة إلى مؤتمرين استضافتهما العاصمتان المصرية والبلجيكية. الأول نظمته جماعة يقودها الزعيم الجنوبي علي سالم البيض ويدعو إلى فك الارتباط مع الشمال، والثاني نظمته جماعة الفيديراليين برئاسة الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد وهي الجماعة التي أصدرت الأسبوع الماضي وثيقة تقترح دولة يمنية بإقليمين شمالي وجنوبي وفترة انتقالية يستفتى خلالها الجنوبيون على الوحدة أو الانفصال. وكانت الشهور الأخيرة شهدت تحولات لافتة منها انسحاب ممثلي الجنوب من المجلس الانتقالي للثورة الشبابية. وبلغت حمى النزعة الجنوبية حد اعتبار البعض حركة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد شأناً شمالياً صرفاً أو «صراعاً بين أحمر وأحمر» لا يعني الجنوبيين. وفي ذلك إشارة إلى انتماء كل من الرئيس صالح ومعارضيه الأقوياء المنشقين عن نظامه، إلى منطقة بيت الأحمر الواقعة ضمن قبيلة حاشد التي توصف ب «صانع» رؤساء شمال اليمن. واللافت أكثر أن تظاهرات خرجت في عدن تندد بما أسمته نقل صنعاء صراعاتها إلى محافظة أبين الجنوبية. ويقول شاب من محافظة أبين: «صالح أراد بإشعال القتال في أبين أن يظهر للخليجيين والغرب أن نائبه لم يستطع أن يسيطر على مسقط رأسه فكيف الحال فيما لو حكم اليمن». وهذه لغة صارت شائعة في الجنوب ترى أن وراء كل مشكلة فاعلاً شمالياً إلى درجة رد البعض انتشار النقاب بين الجنوبيات إلى «غزو الشمال». ولا تستبعد مصادر في الحراك الجنوبي فرضية أن يكون الخلاف المزعوم بين قيادات الحراك مجرد لعب أدوار من منطلق «خوفه بمرض فك الارتباط يرضى بحمى الفيديرالية». وهذا تكتيك لطالما اتبعته الجماعات السياسية في اليمن. وخلال فترة لا تزيد عن 5 سنوات استطاع شعار الضيم الجنوبي أن يوحّد مكوّنات الطيف السياسي الجنوبي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بمن فيهم أعضاء في الحزب الحاكم، حتى شاع القول «إن دم الجنوبي على الجنوبي حرام». بيد أن تسارع الانهيار الذي شهده نظام الرئيس صالح وبدء الحديث عن استحقاقات ما بعد رحيله أعادا تباينات الصف الجنوبي إلى الواجهة لا سيما أن الثأر السياسي في اليمن يتخذ شكل الثأر القبلي. دعوات لفك الارتباط وسجلت الشهور الأخيرة احتكاكات بين جماعات جنوبية تؤيد النظام الفيديرالي وأخرى تدعو إلى فك الارتباط. ويذهب بعض المتعصبين لمطلب فك الارتباط إلى اتهام دعاة الفيديرالية، خصوصاً المنتمين إلى حزب التجمع اليمني للإصلاح بأنهم حصان طروادة لتمرير الهيمنة الشمالية. فيما بدأت حمى التوجس التقليدي بين القبائل الجنوبية المتصارعة تاريخياً تطل باستحياء. وتصارعت جماعتان حراكيتان للاستيلاء على مقر المجلس المحلي لمديرية المنصورة في محافظة عدن قبل أن تحرره مدرعة تابعة للجيش الحكومي. وأدرج البعض الحادثة ضمن محاولة الجماعات السياسية والقبلية تثبيت حضورها على الأرض على غرار ما يجرى حالياً في بعض المحافظات الشمالية من قتال بين الحوثيين والإصلاحيين. ويطاول التشكيك الجنوبي الشيخ طارق الفضلي الذي رافق أسامة بن لادن في حرب أفغانستان وهو سليل أسرة الفضلي التي حكمت أبين قبل الاستقلال وتربطه علاقة مصاهرة بالقائد العسكري الشمالي المنشق اللواء علي محسن الأحمر. ويعتقد حراكيون أن الفضلي في العمق ليس مع دولة جنوبية مستقلة وأن انضمامه إلى الحراك الجنوبي جاء في إطار سيناريو مبكر باشره حزب الإصلاح مع أحزاب اللقاء المشترك، لإضعاف نظام الرئيس علي عبدالله صالح تمهيداً لإسقاطه من خلال تشكيل كتلة تاريخية هي الأولى من نوعها في تاريخ اليمن الحديث ضمت أحزاباً يسارية وقومية وإسلامية وزعامات قبلية. والأرجح أن تشكيل التكتل لم يكن ليقيض له النجاح لو لم يباشر صالح خطوات عملية باتجاه توريث الحكم لنجله أحمد. وهي القشة التي قصمت ظهر التحالف التقليدي الذي نهض عليه حكم صالح على مدى 3 عقود من الزمن. وأدت الاحتجاجات المستمرة منذ عشرة أشهر للمطالبة بتنحي الرئيس اليمني وأسرته عن الحكم والتي صاحبتها أعمال عنف، إلى تراخي قبضة صنعاء وبات ميدان الجنوب شبه خال للنشاطات الانفصالية. وعشية الاحتفال بذكرى ثورة استقلال جنوب اليمن عن بريطانيا عام 1967، انتشرت أعلام الدولة الجنوبية السابقة في شكل غير مسبوق. ورفعت شعارات تحض على استلهام ثورة الاستقلال الأولى لتحقيق الاستقلال الثاني، ويقصد به الانفصال عن الشمال الذي دخل مع الجنوب في وحدة عام 1990 قادت إلى حرب أهلية صيف 1994انتهت بهزيمة القوات الجنوبية. ويصادف زائر عدن شعارات على الجدران من قبيل «شعلة الحراك من نار ثورة 14 أكتوبر». وتلهب أغاني للمطرب الجنوبي عبود الخواجة حماسة الشبيبة. وبعض الشبان يزيد ذلك بارتداء قمصان «تي شيرت» رسم عليها شعار واسم الجنوب. وكان متوقعاً في أوساط الجنوبيين أن يعلن دعاة الفيديرالية الذين شاركوا في «المؤتمر الجنوبي الأول» الذي عقد يومي 21 و22 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري في القاهرة، عن تشكيل مجلس وطني انتقالي جنوبي في مسعى إلى إعادة المحاصصة بين شمال وجنوب على غرار ما كان عليه الأمر لحظة قيام الوحدة. وكانت تعديلات دستورية أجراها حزب المؤتمر الحاكم بعد هزيمة الطرف الجنوبي في الحرب، تم بموجبها خفض عدد مقاعد تمثيل الجنوب في البرلمان، زادت طين الغبن الجنوبي بلة. ولئن ذهب بعض دعاة فك الارتباط إلى اعتبار مشروع الفيديرالية مجرد «فخ»، رأت مصادر سياسية محايدة في الوثيقة التي أعلنتها جماعة الفيديراليين في القاهرة بقيادة علي ناصر محمد وحيدر أبوبكر العطاس تحلياً بالموضوعية وبعد أفق، موضحة أن إقرار فترة انتقالية من شأنه إتاحة الفرصة لإعادة بناء مؤسسات دولة جنوبية. فسواء قاد الاستفتاء في نهاية المطاف إلى الانفصال أم البقاء في ظل دولة يمنية واحدة فإن هذه المؤسسات ستشكل في الحالين ضماناً للجنوبيين. ويمتد الجدل حول مستقبل الجنوب إلى ساحات الثورة في الشمال. ويرى الناشط في ساحة الحرية في تعز وضاح اليمن عبدالقادر أن الحل يأتي من خلال بناء دولة مدنية حديثة تكفل حقوق المواطنة لجميع اليمنيين. وقال عبدالقادر إن الرئيس علي عبدالله صالح استطاع خلال 20 عاماً أن يدمر الروابط التي ظلت تربط بين اليمنيين شمالاً وجنوباً، لافتاً إلى دور جنوبي شرعن نظام صالح، ملمحاً إلى جماعة الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد التي شاركت إلى جانب قوات صالح في حرب 1994. ويؤكد عبدالقادر أن صنعاء وبحكم تركيبتها العسكرية القبلية غير ملائمة لتكون عاصمة تحتضن مشروع الدولة المدنية ويقترح عدن أو تعز عاصمة للدولة الجديدة. ويدعو إلى تضافر الجهود الشابة والدفع باتجاه بلورة قوة شبابية متخففة من الأيديولوجيات الضاغطة باعتبارها صمام أمان بناء مستقبل اليمن الجديد.