تفاقمت أخيراً الخلافات بين فصائل ما بات يعرف ب «الحراك الجنوبي» بصورة غير مسبوقة. ولم يقتصر تصعيد هذه الخلافات، المتواصلة منذ عدة سنوات، على المكونات المتباينة في رؤيتها لحل القضية الجنوبية، والتي تنقسم بشكل رئيسي إلى فريقين، أحدهما يتبنى خيار «فك الارتباط» بين شمال اليمن وجنوبه، والآخر يتمسك بالوحدة التي تحققت بين الشطرين في 22 أيار (مايو) 1990، مع تغيير الوحدة الاندماجية إلى النظام الفيدرالي وتقسيم اليمن إلى أقاليم تُحكَم ذاتياً، وكل فريق منهما مقسم بدوره إلى فرق وكيانات مستقلة تتجاذبها الخلافات والصراعات. ولكن هذه الصراعات غزت أيضاً أكبر مكونات «الحراك الجنوبي» وأهمها، «المجلس الأعلى للحراك الجنوبي»، المرتبط بنائب الرئيس اليمني الأسبق علي سالم البيض، الذي يدعو بعد 22 عاماً على قيام الجمهورية اليمنية، إلى حق «تقرير المصير» واستقلال جنوب اليمن. في أعقاب حرب صيف العام 94، يقيم البيض خارج اليمن، وتتهمه السلطات اليمنية وعدد من القوى السياسية وفصائل «الحراك الجنوبي»، بتلقي أموال كبيرة من الجمهورية الإيرانية لدعم حركة الانفصال التي يقودها. وبالرغم من اشتعال الخلاف بين قيادات المجلس الأعلى للحراك في وقت مبكر، إلا أنه كان أشبه بالنار التي تتفاعل تحت الرماد، ولم يظهر على سطح «الحراك الجنوبي» والمشهد اليمني إلا في الأيام القليلة الماضية، حيث بدا جلياً أن شهر العسل انتهى بين رئيس المجلس حسن باعوم وبين الأب الروحي والممول علي سالم البيض، إثر إصرار باعوم على عقد المؤتمر الأول للمجلس في 30 أيلول (سبتمبر) بمحافظة عدن (جنوب اليمن)، على رغم دعوة البيض إلى تأجيل المؤتمر «لعدم الجاهزية التنظيمية»، التي تتجلى من خلال «ضعف التحضير وغياب الإرشاد التنظيمي الذي يضبط إدارة أعمال المؤتمر وكيفية تشكيل القيادة الجديدة وينظمهما». وتؤكد التطورات الراهنة، أن خلاف باعوم والبيض وصل إلى نقطة اللاعودة، خاصة بعد تسريب معلومات تتهم علي سالم البيض بالتخطيط لاغتيال باعوم والتخلص منه بواسطة عدد من أبناء المحافظات الجنوبية، الذين تم تجنيدهم لتنفيذ المخطط، نظراً لتمرد باعوم، الذي يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الحراك على قرارات البيض، وعدم انصياعه لتوجيهاته، ومن ضمنها رفضه تأجيل المؤتمر الذي انعقد وسط خلافات حادة بين عدد كبير من قياداته، إضافة إلى أن فعاليات المؤتمر على مدى ثلاثة أيام خلت من صور البيض، التي كانت تُرفع في مثل هذه الفعاليات بكثافة عالية. خلافات بين القيادات وتؤكد مصادر مقربة من المجلس الأعلى للحراك ل «الحياة»، أن المؤتمر، الذي اختار مجدداً باعوم رئيساً وصلاح الشنفرة نائباً له، شهد خلافات شديدة بين عدد من قيادات المجلس، وفي مقدمهم ناصر الفضلي وصلاح الشنفرة، ووصلت هذه الخلافات حد الاعتداء بالضرب على الفضلي، ما استدعى نقله إلى المستشفى لتلقي العلاج، إضافة إلى تغيب عدد من قيادات المجلس عن فعاليات المؤتمر، بينهم أمينه العام قاسم عسكر جبران، ورؤساء وفود خمس محافظات جنوبية، هي حضرموت وشبوة وأبين وعدن والمهرة، لاعتراضهم على موعد انعقاد المؤتمر، وما سببه ذلك من خلافات وانشقاقات في صفوفه. ورداً على انعقاد المؤتمر الأول للمجلس الأعلى للحراك بقيادة باعوم، أصدر البيض بياناً هاجم فيه القيادات المشاركة واتهمها «بخرق البرنامج السياسي واللائحة الداخلية للمجلس، والعبث بالمنجزات التي تحققت خلال السنوات الخمس الماضية، ومخالفة القيم الأخلاقية والثورية والوطنية»، وفق ما ورد في البيان. وقال نائب الرئيس اليمني الأسبق إنه أُقر إعفاء حسن أحمد باعوم من «مهامه كرئيس للمجلس الأعلى، نظراً لعدم قدرته على ممارسة مهامه وإخفائه العديد من المعلومات»، وفُصل صلاح قائد الشنفرة وعلي هيثم الغريب من المجلس الأعلى. مصادر في «الحراك الجنوبي» تحدثت إلى «الحياة»، قللت من أهمية قرار البيض إعفاء باعوم من مهامه كرئيس للمجلس الأعلى للحراك ومن فصل الشنفرة والغريب من المجلس، وقالت: «قرار البيض زوبعة في فنجان، وليس له أي تأثير، ولا يملك البيض القدرة على إنفاذ قراره، وهو يعلم ذلك جيداً، لأنه بعيد من مركز الفعل والتأثير في الداخل، مهما بلغ حجم الأموال التي يتلقاها من إيران ويرسلها إلى مَن تبقّى من أتباعه في الداخل، الذين لم يتمكنوا من التأثير على سير أعمال المؤتمر أو إفشاله، رغم كل محاولاتهم». نشطاء في الحراك من أتباع باعوم، ردوا على قرار البيض بحدة وبسخرية لاذعة، من خلال نشر صورة للبيض في هيئة حلاق بلباس الحرس الثوري الإيراني يتفنن في قص شعر أمين عام المجلس الأعلى للحراك قاسم عسكر. ويعتقد مراقبون للتطورات الحالية في أوساط «الحراك الجنوبي»، أن صورة البيض -التي أجريت عليها تعديلات بواسطة برنامج «الفوتوشوب» وحوّلته من شخصية سياسية مرموقة إلى مجرد حلاق- تهدف إلى التقليل من مكانته. وترى مصادر سياسية يمنية أن تمرد باعوم على البيض يؤكد أن الأول لم يعد في حاجة إلى الدعم الذي كان يقدمه البيض إلى بعض فصائل «الحراك الجنوبي» ونشطائه، وفي مقدمها المجلس الأعلى للحراك، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا في حالة حصول باعوم على مصدر آخر يتحمل النفقات الكبيرة للمؤتمر، وتمويل أنشطة المجلس الأعلى للحراك وفاعلياته وتحركاته. وتعتقد المصادر أن الممول البديل للبيض وإيران لا يمكن أن يكون إلا إحدى الدول المعارضة للتوجه والأنشطة الإيرانية في المنطقة. وقالت المصادر إن هذا الشرخ في كيان المجلس الأعلى للحراك يقود إلى انقسام المجلس إلى فصيلين، أحدهما يتبع إيران، وهو الفصيل الذي يقوده البيض، بينما تخلَّص فصيل باعوم من التبعية الإيرانية ليرتمي في أحضان الممول الجديد، الذي رفضت المصادر تسميته، واكتفت بالقول إن «الأيام والأسابيع المقبلة ستكشفه للجميع». وتؤكد المصادر ذاتها أن تمرد باعوم يمثل ضربة قاسية للبيض، وسيُضعف في الوقت ذاته قوة المجلس الأعلى للحراك ومكانته وقدرته، وهو المجلس الذي كان يُعَدّ أقوى فصائل «الحراك الجنوبي». مفاجأة الفضلي وفي الوقت الذي تدعو جميع فصائل «الحراك الجنوبي» إلى وحدة الصف وتجاوز الخلافات، فجر «الجهادي» السابق طارق الفضلي مفاجأة من العيار الثقيل في وجه تلك الجهود، وأعلن في تصريح أنه يستعد حالياً لتكرار حرب صيف العام 1994 «لإبعاد الشيوعيين والملحدين»، الذين تسببوا بنكبات الجنوب منذ أربعة عقود. وقال الفضلي -الذي قاتل في العام 94 دعماً للوحدة اليمنية- إن الحزب الاشتراكي سرطان يجب استئصاله وإبادة عناصره، ودعا إلى قتال الشيوعيين، مشدداً على عدم التصالح أو التسامح أو الحوار إلا بعد إبادة الشيوعية في الوطن. تصريحات الفضلي أثارت مخاوف الحزب الاشتراكي ودفعته لتوجيه بلاغ للنائب العام علي الأعوش، قال فيه إن تصريحات الفضلي قد تعيد «مسلسل القتل ضد كوادر الحزب الاشتراكي وكل الوطنيين والشرفاء في اليمن»، ودعا الاشتراكي اليمني الأحزاب والتنظيمات السياسية والوطنية والعربية والدولية إلى العمل لإيقاف ما يمكن أن تتعرض له قيادات الحزب وكوادره جراء ذلك، وهو ما دفع النائب العام إلى توجيه مذكرة إلى رئيس النيابة الجزائية المتخصصة بمحافظة عدن (جنوب اليمن) للتحقيق مع طارق الفضلي بتهمة التحريض على قتل كوادر الحزب الاشتراكي اليمني. وإلى جانب ما سببته تصريحات الفضلي من خلط للأوراق وتأزم للموقف السياسي في المحافظات الجنوبية، يزداد مشهد «الحراك الجنوبي» ضبابيةً مع تعدد التوجهات التي تتبناها فصائل «الحراك الجنوبي» والمؤتمرات التي تعقدها، فبعد انتهاء أعمال المؤتمر الأول للمجلس الأعلى للحراك، تجري التحضيرات لمؤتمرين آخرين، أحدهما يحضر له البيض ويمثل تكريساً لانقسام المجلس الأعلى للحراك، والآخر يتبناه القيادي الجنوبي محمد علي أحمد، الذي عاد مؤخراً إلى جنوب اليمن بعد 18 عاماً من العمل السياسي المعارض من خارج اليمن، إلى جانب اللقاءات التشاورية التي يعقدها عدد من المنظمات والهيئات المدنية، وفي مقدمها الهيئة الشرعية الجنوبية للإرشاد والإفتاء، والمجموعة الأكاديمية بجامعة عدن، وهيئة الديبلوماسيين الجنوبيين، وغير ذلك. غياب الرؤية الموحدة ويرى سياسيون جنوبيون أن هذه الخلافات سببها غياب الرؤية الموحدة التي تُجمِع عليها الفصائل الناشطة في الحراك كافة، ويشير سياسيون تحدثوا ل «الحياة»، إلى وجود عدد من الفصائل يتبنى خيار «فك الارتباط»، وإلى فصائل أخرى تدعم الفيديرالية، إلى جانب من يدعمون الوحدة بصيغتها الحالية، وكل مجموعة تتناقض في ما بينها في الأساليب والرؤى والتوجهات. وتُرجع المصادر أسبابَ هذا التضارب إلى اختلاف الدوافع التي ينطلق منها كل فصيل، وأيضاً اختلاف الغايات التي يسعى إلى تحقيقها، والتي يتم التستر عليها والاكتفاء بالشعارات العامة، المتمثلة في: «فك الارتباط»، «حق تقرير المصير»، «الاستقلال»، «التحرر»... وغيرها. والسبب الآخر لهذه الخلافات، وفق السياسيين الجنوبيين، عدم وجود قيادة توافقية ومقبولة لدى جميع قوى الحراك ومكوناته وأبناء الجنوب عموماً، وترى المصادر أن إرث نظام الحكم في جنوب اليمن خلال السنوات السابقة لتحقيق الوحدة اليمنية في العام 90، بما حمله من الصراعات الدموية والظلم والطغيان، ألقى بظلاله اليوم على المشهد في جنوب البلاد، وعاق -ولا يزال- التوافقَ والسير خلف قيادة جنوبية موحدة، إضافة إلى شعور أبناء المحافظات الجنوبية بأن القيادات السياسية التي تتصدر الحراك، سواء في الداخل أو الخارج، كانت جزءاً من الماضي الكئيب، وبالتالي أصبحت غير موثوق فيها، وفي الوقت ذاته غير قادرة على تحمل المسؤولية. ويؤكد السياسيون الجنوبيون أن «القضية الجنوبية» تحولت لدى بعض القيادات إلى ورقة للكسب السياسي، ويرون أن الخروج من هذا الوضع والصراعات يتطلب تواري القيادات السياسية العتيقة أمام تولّي الشباب القيادة، ودعوا جميع مكونات الحراك وفصائله إلى منح ثقتها القيادات الشابة المتواجدة في الداخل، وإلى أن يصرفوا أنظارهم عن زعامات الداخل والخارج، التي ثبت للجميع أنها تتكسب على حساب «القضية الجنوبية» وتستثمر معاناة أبناء الجنوب لصالح أطماعها الشخصية. وإضافة إلى كل تلك المعوقات والمشاكل التي تقف في وجه المشروع الانفصالي لجنوب اليمن عن شماله، تقول مصادر ديبلوماسية في صنعاء، إن التوجه الدولي يمثل عقبة حقيقية أمام الدعوات التي تتبنى خيار «الاستقلال»، وتؤكد المصادر التي تحدثت إلى «الحياة»، أن الجهود الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن اليمني والمشاركة بشكل أو بآخر في حل الأزمة اليمنية الراهنة، ترى أن حل القضية الجنوبية يجب أن يتم في إطار اليمن الموحد، وذلك أيضاً ما شدد عليه قرارا مجلس الأمن الرقم 924 و 931. وتعتقد مصادر ديبلوماسية أن الموقفين الدولي والإقليمي تجاه «القضية الجنوبية»، يستندان إلى رؤى وإستراتيجيات المحيطين الإقليمي والدولي تجاه اليمن، اللذين يبدو واضحاً حرصهما على أمن اليمن واستمرار وحدته، لما لذلك من أهمية بالغة تساعد على أمن المنطقة واستقرارها، لأن المشروع الانفصالي قد يكون سبباً في عدم استقرار هذا الجزء الهام والحيوي من العالم، ولذلك تصطدم توجهات قوى «الحراك الجنوبي» وأهدافها بالموقفين الإقليمي والدولي المعارضين للانفصال، على الأقل في الوقت الراهن، بخاصة أن الأوضاع في جنوب اليمن تثير المخاوف الدولية.