طَوّق الإنكليز إخراج الجامعة العربية للوجود، بثقافة التغيير للأسوأ والتقدم للخلف، والتقهقر للأمام، واستعصى على جبابرة العسكر ومحترفي السياسة وفلاسفة القانون فك رموز الاستيطان الإنكليزي في دهاليز جامعة العرب. فتش عن الإنكليز في بنية التأسيس والعرب في الوفاء لتاريخ ورائحة المؤسس؛ التاريخ والتدافع الأممي للشعوب التي أرادت النهوض، يشق طريقه للأمام، ينفض الغبار عن المآسي والتخلف والرجعية، أما نحن العرب فنتلذذ بتاريخ يعيد نفسه وأحداث تُكرر المآسي، والإدمان على صور تغيرت من الأبيض والأسود إلى ألوان زاهية المظهر، رمادية المحتوى والحراك، سوداء الأفعال والنتائج. يقف المواطن العربي حائراً أمام جامعة تحرق مراحل التأسيس الحضاري متجاهلة حقوقاً نهضوية يتطلع إلى صمودها وفعاليتها، قانونياً وسياسياً وثقافياً وتنموياً، وخسران مبين لمن تسول له نفسه المساس بكيانها وتنظيمها، شعارها ليس الوحدة من أجل المصالحة بين الحكام، كما هي حالها منذ أكثر من 50 عاماً، بل وحدة المصالح القومية والحقوق وكرامة الشعوب. تزعم العسكر الصفوف الأمامية للجامعة العربية في التأثير وصناعة القرار بعد ثورات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ثم أطاحت بها زعامات المصالح المربوطة بثقافة المؤسس الإنكليزي الذي أعادها إلى بيت الطاعة الأميركي، هدأت بعدها العواصف وأُدخلت الجامعة في نفق النفس الطويل للإحباط والوعود الوهمية، تساقطت على إثرها أوراق الربيع والخريف العربي، فضاعت الأرض وضاع الحلم والقرار وتوطن الضعف والهوان ومسلسل لعب الأدوار، فتقهقرت الطموحات والمطالب وتململت الاجتماعات وكَثُرت الإنابات، ودُجّنت القرارات فتقدم الصفوف الأمامية من لا يستحي من ترديد العبارات وفرض اللاءات. انفجر الفضاء الإعلامي بتقنياته الجديدة وتحرك في حال الركود من أُصيب بعقدة حرمان صفوف الجامعة الأمامية، وانتشرت عصِيّ ميكرفونات الإعلام المعاكس في أرجاء الوطن العربي كافة التي فتحت الآفاق لهبوب القوى الناعمة بأسلوب ونهج وخطاب مختلف، تَشَكّل على إثرها اصطفاف توجهات المعارضة العربية من خلال المنافذ المفتوحة على الهواء مباشرة. ذُهل المتقوقعون على ذكريات ونهج إعلام المذيع الشهير أحمد سعيد وأخذوا ينظرون بوجل إلى الانفتاح الإعلامي الجديد على أنه مفسدة بدأت تُحرك المسكوت عنه بالرضا والإجبار، وكان لا بد من رد الفعل والتحرك لعمل شيء (ما)، ولكن السيف سبق العذل لإحساس الزاحفين الجدد نحو منصات الأضواء بإيجابية التموضع ولفت الانتباه وحشد الاهتمام. أخذت بيارق القيادة الإعلامية الجديدة تتمركز كسلطة ثانية وليست رابعة في مشهد الشارع العربي، وانبرى في إثرها الداعمون والراعون والساعون لأهداف بينية على خريطة الصفوف الأمامية للجامعة العربية، والانسجام بدا واضحاً بين الخطابين السياسي والإعلامي، وتتابعت المؤتمرات والندوات والقمم الرسمية والشعبية على دولة مقر الإعلام المعاكس أو المسكوت عنه. لم يكن أمام المواطن العربي المحبط إلا التوقف باهتمام للاستماع لشخصيات سياسية عربية جديدة مختلفة التاريخ والنفوذ والموقع، تدفعها قوة إعلامية ناعمة التعريف، شرسة التأثير في واقع عربي مصاب بهشاشة المواقف وغياب الصراحة؛ تطورت من مجرد نشرات أخبار وبرامج إلى المساس بالمستور العربي المالي والسياسي والتاريخي، فنظر إليها بارتباك وريبة من يخاف نبش قبور الأسرار العربية! انقلابٌ أصاب الصفوف الأمامية في الجامعة العربية، فمن يجلس على الكرسي الأمامي الساخن في مشهده الحالي يرفع علامات نصر الخطاب الإعلامي الجديد، وهو ما يفتقده الآخرون، على رغم التوكؤ على الموروث التاريخي والقوة البشرية؛ نجمنا الجديد لديه قدرة هائلة على التواصل مع القاصي والداني من السياسيين وغيرهم، وهم يثقون به وهنا مربط فرس الخوف المستقبلي! يتحدث بصراحة مطلقة، وهي مصدر إعجاب وشك معاً، يسامح من خونوه ويدعو لهم بالهداية وهذا من متطلبات الصبر على تحقيق المراد، يُفسره البعض حكمةً وبعض آخر يذهب به بعيداً إلى دهاليز المؤامرة؟! ويبقى الشعب العربي من أقصاه إلى أدناه تائهاً في أروقة الجامعة العربية، يعرف أمينها العام اسماً وجنسية، ولم يجد تفسيراً لانقلاب نجوم الصفوف الأمامية عليه، وهو الأمين على نظام الجامعة وإرادتها وعدالتها مع جميع الدول، وعلى رغم التأييد التام والقاطع للإجراءات التي اتخذتها الجامعة العربية في التعامل مع الحالتين الليبية والسورية إلا أنني مرتاب من مشهد نجوم الصفوف الأمامية في الجامعة العربية التي تقود هذه المرة حملة الحفاظ على حقوق الإنسان العربي وحمايته من الطغيان والاستبداد لتجاوزها حال الذهول التي يشعر بها المواطن في اليمن وتجاهل هؤلاء النجوم، سامحهم الله، لمطالبهم وما يتعرضون له من قتل وتعذيب؟! فهل نحن على أعتاب مرحلة تصنيفية جديدة للحماية لنخرج من الإهمال الكامل إلى ما قد يُفسر (وقد يكون كذلك) على أنه يندرج ضمن التعريفات العنصرية أو التمييز العربي برغبات دولية؟ * كاتب سعودي. [email protected] Twitter | @alyemnia