نكبة في عام 1948، ثم نكسة في عام 1967، وبعدها دخل عالمنا العربي دهاليز حروب متقطعة وخلافات أثقلت كاهل المواطن العربي ودمرت آماله وطموحاته، وبدلاً من خطط التنمية وتطوير القدرات واقتحام مجالات الإنتاج والبحث والإبداع، جذبتنا أدوات التقهقر وأصبحنا نلهث في رحلة البحث عن الذات وموقعنا بين شعوب الأرض. ظلت عناوين حياة المواطن العربي تخويفية ومرعبة في كثير من الأحيان، ولو أخذنا الخمسين عاماً الماضية حقبة زمنية للمراجعة والتفكير، وراجعنا الطرح السياسي وبرامج الخطط التنموية والتطويرية، سنجد حركة الإجهاض السياسي مصدر الفشل التنموي، وإلا كيف ستكون نهضة تنموية وعلمية ومعنويات مرتفعة في ظل عناوين سياسية مخيفة للعقل ورأس المال العربي ومحبطة لمعنويات وآمال وطموحات أبنائه. ظللنا نسمع طيلة ال 50 عاماً الماضية شعارات التأزيم ووضع الأمة تحت مطرقة الرعب، وانطلقت وسائل الإعلام العربية ترعد وتزبد وتبشر بأن الأمة تمر بمنعطف تاريخي حاسم، وارتجفت الأرجل وخفقت القلوب وجلةً، وارتفعت الأيادي بالدعاء لتجاوز هذا المنعطف، ولا نعلم حتى الآن هل تجاوزناه أم لا زلنا في عراك مع المقود لتجاوزه؟! وتغيرت المعاني إلى مرور الأمة بأزمة خطيرة وأوضاع مهددة بالانفجار، انهمرت معها الدموع خوفاً وهلعاً، فالمسؤول السياسي يعرف أكثر مما نعرف، وبالتأكيد هناك حدث كبير، فأصاب الأنفس العربية ما أصابها من الارتباك! وصدح آخر بأن الأمة تمر بلحظة تاريخية حاسمة، وانكفأ الشعب العربي في المنازل وتسمّر أمام وسائل الإعلام لمتابعة هذا البرق الحاسم في تاريخ الأمة، ثم جاءت التهدئة بأن الحديث موجه لتخويف العدو وإرسال رسالة الاستعداد واليقظة حتى يعرف أننا لسنا نائمين! وبعد أن أصبحت هذه الشعارات جزءاً من حياة المواطن العربي واستكان للتعامل معها، تحركت البلاغة السياسية العربية إلى شعار «المرحلة الدقيقة والحساسة» التي تمر بها الأمة، وعندها خفت رجفة المواطن العربي وهدأ قلبه واستكانت جوارحه، واكتشف أن المشهد السياسي العربي حقق قفزة نوعية وتطوراً هائلاً أوصلته إلى دقة التعامل مع الأحداث وتجاوز حساسيتها، وصادق المجمع اللغوي على حسن استخدامها وتطويعها للخروج من أخطاء ومآزق التقهقر، وبين عشية وضحاها تردد صدى «المرحلة الدقيقة والحساسة» في مختلف جوانب العمل العربي وتغلغل إلى الاقتصاد والتعليم والإسكان والتجارة والصناعة حتى وصل إلى مكونات البنية التحتية. قرأت تصريحاً منذ سنوات لمسؤول عربي يقول إن بلاده تواجه مرحلة دقيقة وحساسة للتعامل مع الانفجار السكاني، وآخر قال إن تعاملنا مع تطوير التعليم يشهد مرحلة دقيقة وحساسة، وقرأنا كذلك عن الغذاء والدواء والتلوث البيئي، والماء والكهرباء، كلها بحمد الله تشهد في وطننا العربي الكبير مراحل دقيقة وحساسة! وعندما سمعت أحد رؤساء الأندية الرياضية في منطقة الخليج العربي يردد أن ناديه يشهد مرحلة تغيير دقيقة وحساسة، توقعت أن هذا النادي سيتحول إلى حزب سياسي، أو سيصدر قراراً بإلغاء كرة القدم من أنشطة النادي لعدم أهميتها وتناقص شعبيتها! أعتقد أن شعار «المرحلة الدقيقة والحساسة» عُلّق بدهاء على مراكب التنمية، وكان المنقذ والمبرر لفشل الخطط وبرامج التطوير وتحسين الحياة المعيشية وبيئة فرص العمل، والهروب من مواجهة محاكم البحث عن أسباب التخلف والتقهقر الذي أصاب وطننا العربي الكبير. حصرنا مواجهة عدونا اللدود «الكيان الصهيوني» بالركون إلى الشعارات السياسية والتسلح وتطوير البنية العسكرية، التي لا تزال ضعيفة، رغم استهلاكها لمقومات وطننا العربي، إذا ما قورنت بعدونا، ونسينا أو تناسينا عمداً قوة تأثير العلم والاقتصاد، وأهمية التدريب ومراكز البحث والتطوير التقني، كما نسينا أو تناسينا أن المواجهة مع الأعداء لم تعد محصورة على الآلة العسكرية المرفوعة بالشعارات السياسية، والمكسورة أصلاً بواقع العدد والعدة والخلافات وانهزام المعنويات في وطننا العربي. لم أعد قادراً على فهم هذا التناقض، وكيف لأمة متقهقرة علمياً واقتصادياً تستطيع أن تواجه عدواً تترجم الإحصاءات تفوقه على أمة بأكملها في المجالات العلمية والبحثية والتكنولوجيا والتصنيع العسكري، حتى في أدوار اللعبة السياسية التي تحولت في ثقافة السياسة العربية إلى تناحر وشقاق وحرب بين الأخ وأخيه! أعيدوا قراءة البيانات التي تلاها أمناء الجامعة العربية خلال ال 50 عاماً الماضية وستتأكدون أن جميع مجالات العمل العربي المشترك، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى الإعلام، ومن التجارة إلى الزراعة، ومن المياه إلى الكهرباء، ومن التلوث البيئي إلى البحث العلمي، ومن الرياضة إلى الفن والموسيقى، كلها تشهد مرحلة دقيقة وحساسة! حتى عندما بدأنا نناقش بعض أمور ديننا ودنيانا عصف بنا الاختلاف ولم نحترم منهجية الخلاف، تجاوزنا الأصول وبحثنا عن الفروع، تركنا الأهم وبحثنا في اعتقادنا عن المهم، لأننا أسرى لمرحلة دقيقة وحساسة! وعندما نرى قنوات السحر والشعوذة، والتسابق على إحياء النزعة القبلية، وقنوات الشعر والشعراء ومن يتبعهم من الغاوين، والسباق على قنوات الجذب على حساب القيم والأخلاق، ومحطات السباب والشتائم والمزايدات السياسية، وأخيراً وليس آخراً بحث وزارة الصحة في دولة عربية عن أغنية «لشعبولا» لتهدئة فزع الناس من «أنفلونزا الخنازير» لنجاحه في صرف الأنظار عن آثار «انفلونزا الطيور»، بعد أن شاهدت وسمعت بَصَمْتُ بالعشرة على نجاح مؤامرة «المرحلة الدقيقة والحساسة» التي أتمنى أن نبحث بين ثنايا الأمل عن مخرج لتحطيم هذا الكابوس الجاثم على صدر الأمة. * كاتب سعودي. [email protected]