هبت مع الربيع العربي رياح فكرية وسياسية عاتية، وصخب إعلامي يُناطح فوضى الشوارع وأزمات البطالة، ونضوج فساد وصل إلى مرحلة المكافحة بالرجاء والأمنيات والرسائل التوعوية، اقتصادات مطلية بالذهب وربما الفضة أو النحاس، المفزع أن الطلاء الرقمي البهرجي ذاب أو سيذوب ويتحول المطلي إلى خردة لا يُؤَمّن عواقبها وتبعاتها إلا اتساع دائرة السجون وشبكات الأمن القبضية، الخراب الاقتصادي والاجتماعي أمامكم، وحلقات القبض الحديدية خلفكم، وأمام هذين الخيارين انفجرت الثورات، ولا تزال الشعوب العربية بعدها تُسيّر في دهاليز خيارين أحلاهما مرُ. أطلق الراكضون خلف المصالح الخاصة أساليب الانتهازية لاختراق قواعد الديموقراطية الوليدة، التي تمثل حرية الفكر والصحافة والإعلام بشكل عام أهم ركائزها، وبدأنا نشعر من قواعد اللعبة الجديدة تبادل الأدوار بين عهود مخلوعة وأخرى منتظرة مع تدخل من هنا وهناك من أصحاب مصالح يعيشون حال استقرار وينظرون من النافذة مراقبين للدخول في صفقات امتلاك صحف مؤثرة وقنوات فضائية، مع تقديم الجزرة بطرق متعددة لاكتشاف نقاط ضعف محررين وكتّاب للسيطرة على توجهاتهم، كما تقتضي المصالح الخاصة. على جانب آخر هناك راكضون للبحث عن الإثارة من أجل الشهرة، وهي الطريق لمرحلة ما قبل التفاوض على الدخول لعضوية أندية الاحتطاب بالأقلام، ويواجه جيل الإعلام الورقي خسراناً مبيناً مع تصاعد وتيرة نجوم منصات الاتصال الرقمية التي بدأت تُفكك شبكات سيطرة شيوخ الإعلام العربي الورقية على التوجهات والحقائق، وكان لمسرح العمليات الإعلامية على الساحة المصرية شواهد كثيرة على انتهاء مرحلة وبداية عهد جديد لم يجد أمامه قبطان الإعلام المصري الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل - على سبيل المثال - من خيار إلا الانكفاء إلى الخلف بعد أن احترقت أوراق رؤيته التي تتلمذت على فلسفة حكم العسكر وتناقضاتها، ولم يستطع أن يواكب خيار الشعب المصري بحكم مدني محتكم إلى صناديق انتخابات حرة ونزيهة. مشكلة عالمنا العربي تَغييب الحقيقة والمكر والدهاء في رسم الخطط للتلاعب بمشاعر الشعوب وإحداث الفرقة بينهم على أساس فوضوي وليس تنافساً تنموياً، ما فتح المجال واسعاً للإشاعات والتنظير وفلسفة الردح بالتوقعات والتخمينات ذات البناء الخشبي يقتلعها واقع إرهاق يصيب مسؤولاً يتصبب عرقاً من حرج إجابة الأسئلة! ما الذي تشترك فيه دائرة الأسئلة الساخنة في واقعنا العربي، وكيف أصبح الإعلام الرقمي الجديد كاشفاً للحقيقة ومرعباً في الوقت ذاته، وهل فقد الإعلاميون والكتّاب السيطرة على مقود الأقلام لدخول حلبة المنافسة وأصبحنا أمام مستقبل تتشكل فيه القوى الناعمة بفكر جديد ومنهجية المصالح الخاصة؟! ما تشير إليه أحداث ووقائع ثورات الربيع العربي أن صرخة الضمير التي تؤنب المجرم وتقوده العدالة إلى مواجهة جريمته لا يزال يكتنفها الكثير من الغيبيات المستوطنة بأثر أنظمة مطرودة، ولذلك ستظل الأوهام الموروثة والشعور المزعج يُطوق الشعوب العربية لخشيتها من فقدان العوائد الإيجابية للتجربة الثورية، والقلق المشروع ينتاب من ينظرون إلى المستقبل في سياق أدبيات وأفعال فاضلة لخدمة الصالح العام والمنهج الأخلاقي الأمين في بناء الدول وإدارتها. التغيير محك اختبار لنضوج العقلية العربية وتطورها، ولا تزال شعوب ثورات الربيع العربي تبحث عن قيادات الاستطاعة، التي تُوصلها إلى بر الأمان بقيادة نزيهة مخلصة، وهي تواجه قوى المصالح والنفوذ التي تشكلت في الحكم عبر عقود من الزمن إلى شركات مختلطة، مجالس إداراتها عسكر وسياسيون وحزبيون وعملاء وقانونيون وقضاة، وإداراتها التنفيذية وزراء يقومون على رعاية مصالح واستثمارات الشركاء، أبواقها كتّاب وصحافيون ومصورون ورسامو كاريكاتير، وبالصوت والصورة محطات فضائية وبرامج إعلامية محايدة ومعاكسة، ترعى أندية رياضية جماهيرية، وتدعم صوالين أدبية، وفنانون وفنانات يساندون الشركات المختلطة في الأوقات الصعبة بإطلالات عاطفية! إذا ساوركم الشك في ما ذكرت، فقد سبقني زميلنا الكاتب جهاد الخازن الذي يَدّعي معرفته ببواطن الكثير من الأمور في عالمنا العربي، وذكر في مقالته يوم الثلثاء من الأسبوع الماضي «أن الجيش المصري من خلال المجلس العسكري يريدون عزل السلطة التنفيذية المنتخبة عن أي تدخل في موازنة الجيش وعمله وشركاته، فهو يسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على ثلث اقتصاد مصر، أو ربما 40 في المئة منه؛ وعلى رغم هذه الحقيقة التي أوردها يقول الكاتب القدير عن الإخوان المسلمين إنهم يعملون على أساس المثل الشعبي المصري «إتمَسْكِن لما تتمكن»، ولا يزال رأيه فيهم حتى الآن على حد قوله، وليسمح لي الأستاذ جهاد الخازن أن أقول: إن الصراع هو مواجهة بين الشعب المصري والشركة المختلطة التي يملك العسكر 40 في المئة من مصالحها وعوائدها، وبانتخاب الدكتور محمد مرسي وخسارة الفريق أحمد شفيق هناك خشية من تصفية الشركة المختلطة والمساس بحصة العسكر، والرئيس الجديد المنتخب من الشعب المصري بانتخابات حرة ونزيهة أقسم على الإخلاص والأمانة والنزاهة وسيعمل على إعادة هذا الثلث «والثلث كثير» الواقع تحت سيطرة جيش مقبوض عليه باتفاقات السلام، ومتفرغ لحماية سيطرته على ثلث الاقتصاد المصري. السؤال الذي يطرحه المواطن المصري البسيط قبل المثقف، لماذا يرفض العسكر مناقشة موازنة الجيش ومراجعة ومراقبة الأداء المالي والإداري؟ ولماذا يحاولون الالتفاف على مشروع الإصلاح وإبعاد السلطة المدنية عن دولتهم العسكرية؟ أسئلة تثير الشكوك على نحو واسع حول فساد ومصالح لكبار الضباط يخشون المساس بها؛ ومن هنا تبرز مهارة الرئيس المخلوع في قولبة العقيدة العسكرية ومزجها بملذات فتنة المال حتى يكون مزاج قادة العسكر «راااايق» ومُطَمئِناً للقائد الأعلى. * كاتب سعودي. [email protected] @jbanoon